الأربعاء، 15 أبريل 2015

السقيتة الذهبية ـ قصة محمود البدوى









البـرج

     عندما استولى الألمان على « الضبعة » فزعت الشركات الكبرى وبيوت المال الموجودة فى القاهرة .. وأخذ الأثرياء والذين ارتموا فى أحضان الإنجليز يعدون العدة للهرب إلى السودان ..
     وكانت الغارات متصلة فى النهار والليل والحرب قد أصبحت على خطوات منا ..
     وأسرع الناس يخفون جواهرهم وحليهم ويسحبون ودائعهم من البنوك ..
     واتخذت طريقى إلى البنك الأهلى كالعادة لأصرف المبلغ المخصص لمرتبات الموظفين فى الشركة ..
     ووقفت على جانب من الطاولة الطويلة أعد السبعة آلاف جنيه وبجوارى زملائى من الصيارف .. وكانوا يتحدثون فى قلق .. عن مصيرنا جميعا فى الشهر المقبل .. وهل سنجىء إلى هنا ونقف هذه الوقفة .. ؟ أو سنكون فى عرض الطريق ..
     ووضعت المبلغ فى حقيبتى وخرجت من صالة البنك إلى شارع قصر النيل ووقفت على الناصية انتظر سيارة أجرة لأركبها إلى الشركة كما كنت أفعل كل مرة .. وفى أثناء ذلك دوت صفارة الانذار .. فملت إلى الباكية .. لما سمعت أزير الطائرات فوقى وقصف المدافع المضادة .. وكان الضرب شديدا حتى خيل إلى أن بعض الجنود قد هبطوا بالمظلات فى مداخل العاصمة وعلى رأس « الكبارى » والطرقات ..
     واشتعل رأسى بخواطر لم أفكر فيها قط وأنا واقف وبجوارى أكياس الرمل التى تحيط بالبنك .. جاءت من وحى الساعة .. وطالت الغارة .. وكانت كل لحظة تمر تشد من عزمى إلى تنفيذ ما انتويته .. بأسرع ما فى المستطاع ..
     وبحماسة الشباب لكل مغامرة .. ودون خوف .. انطلقت بالمبلغ إلى بيتى وأخذت أعد حقيبة السفر بالسرعة التى يتطلبها الموقف ..
     وكانت محطة القاهرة تعج بالجنود الإنجليز الهابطين من القطارات والصاعدين إليها بأحمالهم ، وبنادقهم على أكتافهم .. وأثر الهزيمة باد على وجوههم .. والناس يتخاطفون الصحف .. والأنباء فى كل لحظة تأتى بخبر جديد ..
     وسرنى الزحام الذى وجدته فى المحطة .. والجمهور الغفير بأزيائه المختلفة.. فتهت فى وسط هذه الجموع حتى ركبت قطار الظهر المسافر إلى الإسكندرية ..
     ولم أكن أعرف حتى بعد أن تحرك القطار أين سأنزل ولكننى كنت أعرف كل شبر فى الإسكندرية ..
*   *   *

     وكانت الحركة فى الإسكندرية عادية جدا والمدينة كما ألفتها .. ولا يغير من وجهها سوى وجود الجنود الإنجليز والأمريكان بكثرة فى الشوارع .. وكنا فى بداية الصيف .. والجو لطيف .. والمدينة لا تزال ضاحكة ..
     وجلست فى مدخل قهوة صغيرة فى شارع « النبى دانيال » لأستريح وأختار مكان الإقامة ..
     ووجدت بعد تأمل أن الموقف يتطلب أن أبتعد عن كل مكان يمكن أن ألاقى فيه شخصا أعرفه .
     واخترت بقليل من التفكير « المندرة » .. لأنى أعرفها جيدا ولأنها بعيدة عن العيون ..
     وقد تنشر الصحف صورتى فى الصباح التالى وتروى ما حدث بإثارة .. وقد تجبن الشركة عن النشر لأنها يهودية .. وتتوقع دخول رومل .. فى كل لحظة ..
     وفى كلتا الحالتين أنا آمن فى المندرة .. وهى خير مكان ..
     وخلال لحظات كانت تمر فى زحمة المدينة كنت أنسى أننى هارب وأحمل سبعة آلاف جنيه مسروقة ..
     وبلغت « المندرة » وقرص الشمس يتدلى فى البحر .. وكان البحر لا يزال يهدر وموجه يزحف على الشاطئ الرملى ..
     واتجهت إلى المساكن .. وأنا أعرف أن كثيرا من السكان هجروا الإسكندرية بسبب الغارات وزحفوا إلى الريف ..
     فكانت المساكن الخالية كثيرة جدا .. ولم أكن أود أن أستعين بأى انسان فى البحث عن غرفة ..
     تركت المنازل القريبة من البحر ، وعبرت شريط سكة حديد « أبى قير » كنت أود أن أجد غرفة هناك فى المنازل المقامة على التلال .. والتى تحيط بها الحدائق الصغيرة .. هناك يمكن التخفى فلا أحد يتعقبنى فى مثل هذا المكان ..
     كانت المنازل متشابهة وقليلة الارتفاع .. واسترعى انتباهى منزل على شكل برج كان أعلاها جميعا .. وبه لافتة تشير إلى غرفة للإيجار ودرت حوله مرتين .. ثم ضغطت على الجرس .. والحقيبة لا تزال فى يدى وعيناى تتطلعان إلى فوق .. ولم أتلق ردا .. فطرقت الباب خشية أن يكون الجرس معطلا ، طرقته مرتين فلم أسمع غير السكون فتسحبت متمهلا على الرمال .. وأنا أفكر فى الذهاب إلى جهة أخرى ..
      وهفا إلى من عل صوت ناعم يقول :
     ـ مين .. ؟
     فتطلعت إلى فوق .. فرأيت سيدة شابة تطل من نافذة البرج ..
     بدت لى أنها خارجة على التو من الحمام .. كانت محلولة الشعر .. والروب الأزرق ينفرج عن صدر كالمرمر ..
     وقلت وأنا أحاول أن أجعل صوتى خافتا لا يسمع ..
     ـ فيه غرفة مفروشة ؟
     ـ أنا نازلة ..
     وحدث ما توقعته .. فهبطت وفتحت الباب .. ووقفت أمامى تتفرس فى وجهى وأنا ممسك بالحقيبة .
     وسألتها عن الغرفة ..
     فسألتنى بنعومة :
     ـ عاوزها .. شهر واحد أو شهرين .. ؟
     ـ شهرين وربما أكثر .. عندما تستقر الأمور ..
     ـ طيب .. لما أسأل ماما .. اتفضل ..
     ودخلت من الباب الخارجى .. إلى فسحة صغيرة .. وقدمت لى كرسيا .. وانسابت إلى الداخل وهى تقول :
     ـ يا ماما .. فيه واحد أفندى عاوز يسكن ..
     وسمعت الجواب آتيا من بعيد دون أن أرى صاحبته ..
     ـ طيب يا بنتى وماله .. فرجيه على الغرفة اللى فوق ..
     وصعدت سلالم البرج .. وراءها إلى غرفة علوية مفروشة بأثاث بسيط .. ولكنها جميلة وتطل على ناحية البحر ..
     ويبدو أنها كانت بداية لشقة كاملة .. ولكنها لم تتم فقد ظهر أثر ذلك على السطح ..
     وكان لابد أن استعمل دورة المياه الموجودة فى شقتها .. لأن الغرفة لم يكن لها دورة مياه خاصة ..
     ولذلك أعطتنى السيدة مفتاح الشقة .. ونقدتها أجر الغرفة مقدما عن شهر ..
     وأخذت تدلنى على كل شىء فى الغرفة .. ثم خرجت بى إلى السطح وأرتنى برج الحمام .. الذى أصبح خاليا تماما .. وشاهدت معها المنظر كله ومـا يحيط بالبيت من بساتين .. ومنازل صغيرة على غاية من الجمال ..
     وسألتنى بدماثة إن كنت فى حاجة إلى مزيد من الأثاث فى الغرفة .. فشكرتها .. وقلت لها أن الموجود فيها فوق الكفاية ..
     وحيتنى ونزلت إلى شقتها وجلست ببذلتى متجها إلى ناحية الشمال .. وكانت الشمس تجنح للغروب والهواء يحمـل إلى من بعيد نسيم البحر ..
     وكانت تلال الرمال المحيطة بالبيت تلمع فى الشمس والنخيل الكثير المحيط بالمساكن يوحى إلى بأننى انتقلت فجأة إلى واحة .. هادئة ساكنة ..
     كان يخيم على « المندرة » .. هدوء غريب .. كأننا فى صميم الريف هدوء كنت أطلبه بجدع الأنف فوجدته بسهولة .. أنه أحسن مكان لهارب ..
     وكانت الحقيبة الملآنة بأوراق البنكنوت موضوعة هناك فى الركن ولم افتحها .. وأخذت أفكر فى المكان الذى أخفى فيه المبلغ .. أأتركه كما هو فى الحقيبة أم أنقله إلى الدولاب .. وأخيرا وضعته فى درج الدولاب .. وغطيته بالملابس الداخلية ..
     وخلعت بذلتى واغتسلت من تراب السفر .. ورأيت شقتها وكانت مكونة من غرفتين صغيرتين وفسحة .. ورأيت والدتها العجوز .. ولم أر فى البيت سواهما .. وكان الأثاث يدل على أن الأسرة متوسطة الحال .. ووجدت فى عين الأم صرامة لما وقع بصرى عليها .. وكانت ساكنة الطائر ولكن حسها كان يعلو دائما على صوت ابنتها .. وكانت هذه طيعة لها على طول الخط ..
*   *   *
     وعضنى الجوع .. فركبت القطار فى الليل إلى المدينة .. وكان الاظلام تاما .. والناس رغم الظلام فى حركة دائبة .. والملاهى ممتلئة بالجنود الإنجليز والسكارى ..
     وكانت هناك فصائل من الجنود فى المحطة راحلة إلى الجبهة .. والدبابات تتدحرج بعيون عمياء فى الشوارع الرئيسية ..
     وكان سكان المدينة قد خرجوا إلى المقاهى يستمعون فيها إلى أخبار الحرب.. وإلى دور السينما والملاهى المتناثرة على طول الكورنيش ..
     ودخلت مرقصا .. وجلست إلى مائدة فى الركن وطلبت كأسا من البراندى .. وكان الضوء خافتا ورائحة الدخان تغطى المرقص .. وفى دائرة الضوء راقصة مصرية شابة ترقص رقصا شرقيا مثيرا ..
     وكان جسمها لدنا بديع التقاطيع .. ومن عينيها يطل بريق الشهوة .. وحولت نظراتى إليها ولاحظت أنى لا أحول طرفى عنها ولما انتهت الرقصة مرت بجانبى لأدعوها إلى مائدتى ولكنى لم أفعل .. وجلست مترددا .. ومشت نحو زبون آخر وجلست تحادثه ..
     وشعرت بعد قليل أن التردد فى دعوتها قد ولد عندى أحساسا بالضيق.. فطلبت كأسا ثم كأسا .. وجلست أشرب حتى أحمرت عيناى وأحسست بثقل فى رأسى .. وأخذت أحس أكثر وأكثر بفظاعة ما عملته فى الصباح .. وبأننى لا أستطيع أن أختفى أكثر من شهر .. ثم أقع فى قبضتهم .. وأنه لا شىء ينقذنى إلا دخول رومل وسحق الشركة بكل من فيها من يهود ..
     وكان الخوف من دخول السجن قد أرعبنى فجلست حزينا منقبض الصدر ..
*   *   *
     وعندما خرجت إلى الشارع كان الجو لطيفا وهواء البحر يرطب الوجوه .. وشاهدت بعض المجندات الإنجليزيات يتبخترن فى شارع صفية زغلول .. فى ملابسهن الرسمية وكن جميلات أنيقات .. وخدودهن وردية .. وكان الحزن والقلق والخمر التى شربتها قد جعلتنى أشتهيهن بجنون ، كانت الرغبة الجنسية هى منقذى الوحيد من عذابى وقلقى ..
ولما ملن إلى شارع « شريف » تبعتهن ودخلن السينما .. فدخلت وراءهن وجلست فى نفس الصف ..
     وكان الفيـلم مثيرا .. ورغم ما فيه من مواقف فقد جلسن ساكنات ..
     وكان هناك جنود انجليز فى الصالة يشاهدون الفيلم مثلنا فلم أحفل بهم اطلاقا .. وتولد عندى فى هذه اللحظة أحساس رهيب للقتال .. ودوت صفارة الانذار فى الخارج .. فتوقف العرض فى السينما .. وظهر على وجوه المجندات الاضطراب .. والخوف .. ونحن فى هذا المستطيل الضيق والظلام يرج النفس ويمزقها ..
     وتلقين من بعض الجنود اشارة فنهضن وخرجن متسللات .. كانت هناك عربات مغلقة تجمعهن فى الشوارع ..
     وخرجت بعدهن ومشيت فى الظلام إلى المحطة وأنا شارد الذهن تماما ثم ركبت القطار إلى المندرة ..
*   *   *
     ومن عادتى أن آخذ حماما بعد كل جولة فى المدينة فخلعت بذلتى ولبست البيجاما ونزلت إلى شقة سعدية وكان السكون مخيما ولم أكن أعرف أتنام مع أمها فى غرفة واحدة أم تنام وحدها .. لم أسمع حسها .. ولكن فى الصباح عرفت أنها كانت ساهرة وأحست بى وأنا فى الحمام ..
     ومرت عشرة أيام استطعت أن أشعر فى خلالها بالاطمئنان وأن أحدا لا يتعقبنى وأن مصيرى قد أصبح مجهولا للشركة فمن المحتمل جدا أن يتصوروا أننى أصبت فى غارة .. أو قتلت فى حادث سيارة فى الظلام ..
     ولكن الشىء الذى أقلقنى أن زحف رومل قد توقف فى العلمين .. مما جعل الشركات تجمع شملها من جديد ..
     ولم أكن أود أن أطلق لحيتى أو أغير زيى فألبس الملابس البلدية مثلا بدل البدلة .. لم أكن أود أن أفعل هذا أمام « سعدية » .. وأمها حتى لا أثير شكوكهما .. وعلى الأخص أنه لم يكن بينى وبين الأم أية مودة .. وكل ما فعلته اننى غيرت اسمى من إبراهيم عبد الكريم إلى سيد عبد القادر .. ولم أبق فى حوزتى أية أوراق تشير إلى اسمى الحقيقى ..
     وكان البيت هادئا .. وليس فيه من السكان .. سوى سعدية وأمها وساكن فى الدور الأرضى .. وكنت لا أراه إلا لماما ..
     وكان « سليم » يعيش وحيدا .. ويقولون أن زوجته هجرته .. لما اشتعلت الحرب واشتغلت راقصة فى القاهرة .. وعشقها أحد الضباط الإنجليز وأصبحت محظيته ..
     وكان الرجل فى حوالى الثلاثين من عمره قويا طويل العود .. ولكن أثر حادث هرب زوجته على عقله .. فأصابته لوثة .. من كثرة كلام الناس عن زوجته وتقريعهم .. وكان الصبيان يتضاحكون عليه فكان يثور عليهم ويحاول ضربهم ثم يهدأ سريعا ..
     وأصبح يبتعد عنهم ويعيش فى عزلة تامة ولا يأتى إلا إذا خيم الظلام .. فكنت لا أراه إلا نادرا .. ويخيل إلى أنه لا يأتى إلى البيت إلا لينام .. ولم أكن أعرف عمله على وجه التحقيق ..
     وانقضى أسبوعان آخران .. ووجدت نفسى لطابع الملال أقضى الليالى كلها فى ملاهى الإسكندرية .. وكنت دائما أضع فى محفظتى .. عشرة جنيهات للصرف .. وثلاث ورقات كل ورقة بمائة جنيه فى جانب من المحفظة وأبقيها ولا أمسها على احتمال أن البيت سيدمر فى غارة جوية وهذا المبلغ سأعيش به إلى حين ..
     ولم يكن الظلام الذى يغلف المدينة يرهبنى ولا وجود الجنود الإنجليز والأمريكيين فى كل مكان ..
     وكانت قوافل سياراتهم تتحرك دوما .. فى الشوارع الرئيسية وهى حاجبة أنوارها خشية الغارات التى اشتدت على الإسكندرية ..
     وكانت قطع من الأسطول البريطانى راسية هناك فى مياه الإسكندرية .. ولكنها كانت لا ترى بالعين المجردة فى عرض الماء .. كانت تختفى عن الأنظار وكان وجود فصائل من الجنود الإنجليز فى « أبى قير » يجعلهم دائما من ركاب القطارات الذاهبة إلى المندرة والراجعة منها .. وفى الليل كنت أرى بعضهم سكارى يترنحون فى شوارع « المندرة » أو فى صحبة من يقودهم إلى حيث النساء الساقطات ..
     وكان الفراغ والتبطل وظلام الحرب ووجود المال معى بغير حساب يجعلنى أصرف بسخاء وأدور على الملاهى كل ليلة ..
     ودفعنى القلق .. إلى طلب النساء .. فكنت ألتقى بهن فى شارع « البير » وأرافقهن إلى مساكنهن ..
     وحدث ذات ليلة أن نشبت معركة رهيبة بين الجنود الإنجليز والأهالى فى شارع البير وأطلق فيها النار وكدت أن يقبض على لولا أننى جريت فى الظلام ودخلت فى أول باب مفتوح صادفنى فى الشارع .. وكنت أسمع خلفى ضوضاء المعركة وصوت الرصاص وأحاول بكل جهد أن أبتعد عنها .. حتى لا يقبض على وتقع الكارثة ..
     والظاهر أن سكان العمارات المجاورة فى الحى أحسوا بها .. لأنهم أطلوا من النوافذ والشرفات فى الظلمة البادية وسمعت وأنا فى مدخل البيت حركة أقدام تقترب فصعدت إلى الدور الرابع .. ووقفت على البسطة مذعورا وأنا أسمع جلبة رهيبة تقترب فى كل لحظة ..
     ووقفت أمام باب مغلق أحاول أن أقرأ اللافتة المكتوبة عليه ورقم الشقة.. وهنا سمعت الباب المقابل ينفرج وأطلت منه سيدة مصرية فى حى معظم سكانه من الأجانب ..
     ولما بصرت بحالى .. قالت بعذوبة :
     ـ اتفضل ..
     فدخلت على التو دون تردد .. وأغلقت الباب ورائى وأخبرتنى أنها أحست بالمعركة منذ بدايتها .. وأننى فى أمان الآن .. ويمكن أن أقضى عندها الليل كله .. أو بعضه .. على حسب رغبتى .. وأنها وحدها ويؤنسها وجودى وأدركت من حركاتها أنها غانية ..
     وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث وكانت فرحة وشربنا وأعطتنى شفتيها.. ونمت فى فراشها ..
     ولما خرجت فى الصباح .. إلى الطريق عرفت أنها سرقت محفظتى بكل ما فيها من نقود ..
     وقضيت أسبوعا كاملا لا أبرح فيه المندرة ..
*   *   *
     وأصبحت فى الشهر الثانى من هروبى وكان كل شىء مريحا فى البيت .. ولم أكن فيما عدا غسل ملابسى أشعر بأى مضايقة .. وكنت أرسل القمصان للمكوجى ولكن الملابس الداخلية ترددت فى ارسالها لأنى خشيت أن يغسلهـا مع ملابس أخرى .. فكنت أغسلها بيدى فى الحمام ..
     وحدث أن رأتنى سعدية وأنا أفعل ذلك .. فتناولتها من يدى وقالت بعذوبة لم أسمعها من فمها من قبل ..
     ـ ولماذا لم تخبرنى .. اترك غسيلك هنا ..
     وشكرتها بقلب حار ..
     ولقد أخجلتنى بفعلها هذا ، وزادت رقتها على مدى الأيام واهتمامها بى فتحولت إليها بعد أن كانت عندى مجرد صاحبة بيت .. كانت متوسطة الطول سمينة قليلا .. وكان قوامها جميلا متناسقا .. ووجهها أبيض فى استدارة وشعرها أسود غزيرا .. وعيناها جميلتين عذبتين .. وعلى شفتيها رضاب يتحير أبدا ..
     وكان صوتها خافتا عذب الجرس .. وكانت ترد على زعاق أمها بصوت هادىء حيرنى ... وكنت أسأل نفسى دائما لماذا لم تتزوج فتاة فى مثل جمالها ولها بيت تملكه ..
وكانت قليلة الخروج وست بيت ممتازة ..
     وكنت بعد أن أخرج من الحمام أراه قد نظف فى دقائق قليلة وعاد رخامه يلمع .. وكان فراشى وحجرتى فى غاية من النظافة ..
     وكانت تقدم لى الشاى .. والماء المثلج .. وتركب الزراير الساقطة من القمصان .. وتكوى لى البيجامة وتعد لى ماكينة الحلاقة فى الحمام ..
     ولم أكن أبغى بيتا وحنانا أكثر من هذا فى حياتى .. وكان يحزننى أننى وجدت هذا البيت وهذا الحنان وأنا هارب .. مطارد ..
     وكان الهدوء الذى خيم على جبهة القتال فى العلمين يمزق أعصابى .. إذ كنت أجد فى استمرار الحرب وتأججها نجاة لحياتى ..
     وكان يخفف من وقع الأمر على نفسى استمرار الغارات .. والاظلام فى كل مكان .. وهجرة السكان من المدينة إلى الريف ..
     وقد جعلنى القلق وكثرة المال الذى فى حوزتى أتردد على البغايا .. وأصاحب الراقصات فى الملاهى وكنت أشعر بجفاف حياتى وضحالتها ..
     ولكن لم يكن من سبيل إلى شىء آخر أعمله .. ونسيت أهلى فى القاهرة.. إذ كانوا قلة وكنت أعيش فى عزلة تامة عنهم حتى قبل بداية الحرب .. ولم أكن أعرف عنهم شيئا اطلاقا وأنا فى الشركة ..
     ودارت فى ذهنى مشروعات كثيرة كلما نظرت إلى أوراق البنكنوت فى الدولاب ..
     وفكرت فى أشياء أعملها وأدر منها ربحا كبيرا ولكننى كنت أتردد فى التنفيذ وأخيرا استقر رأيى على أن أرحل إلى الخارج بعد أن أعثر على من يهربنى فى سفينة بضائع ..
     ولم أكن أدرى هل استرابت السيدة سعدية من حالتى .. فأنا متأنق وأصرف بسخاء ولكننى كنت أخرج فى الصباح كأى شخص يعمل ولا أعود إلا فى ساعة القيلولة ..
     وعندما بدأ الخريف تغيرت طباعى وزادت صلتى بها .. حتى كدت أن أعترف لها بما فعلته ..
*   *   *
     ولقد طرق بابى ذات ليلة .. بعد أن عدت من الخارج وخلعت بذلتى .. فارتجفت إذ لم أعتد على طارق فى الليل .. ونظرت إلى المبلغ المسروق وكنت أود أن أخفيه فى طيات المرتبة ولكننى وجدت أن أى عمل الآن لا ينفع ..
     واضطربت .. ثم سمعت صوتها .. ففتحت الباب فوجدتها على الباب تحمل لى الغسيل كله مكويا ..
     ودخلت وهى تقول :
     ـ نغير لك أكياس السرير .. والملاية .. لأنك نسيت ولم تترك المفتاح ..
     ونظرت بنعومة وقالت :
     ـ أمسك معى المخدة ..
     وأخذت تدخل فيها الكيس .. وجذبتنى بحركة بارعة فوقعت وضحكت.. وأمسكت بها وهى نشوانة من الضحك .. وضممتها إلى صدرى .. وأخذت أقبلها بعنف وشراسة وفاجأتها الحركة .. فبهتت .. ثم استجابت برغبة منطلقة ..
     ولقد لفنى بعد هذه الليلة مثل الاعصار .. وأصبحت لا أستطيع أن أقاوم اشتهائى لهـا وشغفى بهـا .. وكانت تأتينى كل ليلة بعد أن تنام أمها ..
     وكنت كلما وجدتها وحدها فى الحمام أو فى المطبخ ووالدتها بعيدة عنها .. أعانقها بحرارة ..
     وأخـذت أغمرها بالهدايا .. أشترى لها أفخر الثياب وأنفس الجواهر ..
     وكنت أعطيها النقود بغير حساب ..
     وتغير الحال فى البيت .. وشعرت الأم بما فعلته لابنتها فكفت عن الجفاء الذى كانت تقابلنى به ..
     ولم تسألنى سعدية عن مصدر هذا المال .. ولعلها خمنت شيئا .. ولكنها سكتت لم تصرح لى ..
     وكنت أعتصر قوامها اللدن وكأننى أشرب الرحيق لحياتى .. ولم تكن ترتوى من حبى أبدا .. كانت تطلب المزيد .. وقد جعلنى هذا الاعصار أؤجل رحيلى .. وكنت قد اتفقت مع بعض الصيادين على أن يحملنى إلى سواحل بيروت .. وهناك أهرب إلى أوروبا .. عن طريق تركيا .. وقد قبل هذا نظير خمسمائة جنيه ..
     لقد تكشف لى أن هذه المرأة قد استحوذت على ، وفصلتنى عن الحياة .. وعن كل ما يجرى فى المدينة .. ونسينا الحرب .. وعندما كانت تدوى صفارة الإنذار لم نكن نشعر بها .. وكنا نود أن يطول الظلام ليطول عناقنا ..
     وكنت أتأمل فمها وشفتيها الغليظتين والرضاب الذى ارتوت به روحى وشعرها المتموج وقوامها بكل ما فيه من شهوة .. وأروح فى دوامة الغيرة وأتساءل من الذى تمتع بهذا واعتصره قبلى ولا أعود لنفسى إلا وأنا أشعر بأناملها الخفيفة وهى تمسح على جبينى ..
*   *   *
     كنت كل يوم أتحسس النقود فى مكانها وأطمئن على وجودها .. وأراها رغم كل الذى صرفته كأنها لم تمس ..
     كانت أوراق البنكنوت مكدسة فى صفوف كما وضعتها فى الدرج .. مغطاة بالقمصان ..
     وأخذت أسائل نفسى ما الذى يفعله الأغنياء الذين يملكون الملايين .. ما الذى يفعلونه وهم يحرمون باكتنازها ملايين الأفواه الجائعة من حق الحياة ..
     ما الذى يفعلونه .. وما الذى فعلته بالآلاف التى سرقتها .. لا شىء .. سوى أنها جعلتنى أحس بالضياع ..
     لقد مزقنى القلق .. وحطم روحى .. كانت تغشانى موجات من الكآبة .. فكنت أقفل الغرفة علىَّ من الداخل وأزحف إلى الفراش ..
     كانت رغبتى شديدة إلى الوحدة .. حتى وإن كنت أتوقع أنها بعد لحظات ستطرق بابى ..
     ربما كانت الجنيهات الخمسة عشر التى أتقاضاها بعرقى من الشركة أنفع لى من هذا المبلغ .. ولكننى على أى حال قبل بداية الحرب وبعدها كشاب كنت أحس بالضياع .. وقد يكون سببه الاحتلال .. وقد يكون سببه أن كل القيم قد انهارت أمامى .. ومزقت الصور والمثل وأصبحت أعيش فى ظلام ..
*   *   *
     كنت أفكر فى سعدية وأنا راجع وحدى فى الليل .. هل تحبنى .. وهل كانت متزوجة وأين زوجها أنها لم تكن عذراء هل جرفها التيار .. ؟
     وتغشانى الضباب .. وكانت الغيوم تخيم على السماء .. وقبل أن أقترب من البيت أحسست بحركة غير مألوفة فى الحى الهادىء ..
     ولما اقتربت أكثر وجدت شيئا أفزعنى .. وجدت نطاقا من الجند مضروبا حول الشارع وعساكر من البوليس المصرى .. والبوليس الحربى الإنجليزى وعلمت أنهم وجدوا عسكريا إنجليزيا مقتولا وموضوعا فى برج الحمام ودلهم عليه قبعته وقد أسقطتها حدأة فى الشارع ..
     وكان الهمس يدور بأن « سليم » الساكن فى الدور الأرضى هو الذى قتله وهرب سليم لم يعثروا له على أثر وفتشوا البيت كله ..
     فتشوا غرفتى .. وقلبوها ظهرا لبطن .. وكسروا الدولاب وعثروا على المبلغ ..
     كنت أسمع هذا الهمس يدور حولى فى الظلام وأنا واقف ..
*    *    *
     وهربت فى جنح الظلام دون أن يشعر إنسان بوجودى وكان معى مبلغ ضئيل .. واشتغلت وقادا فى السفن .. وحمالا فى الموانى .. وبائعا جوالا ..
     وطفت حول الدنيا فى مدى عشرين عاما .. انتحلت فيها كل الأسماء .. وكل الجنسيات وتعلمت سبع لغات حية وميتة وعاشرت كثيرا من النساء ..
     ورغم كل ما لقيته من عذاب .. فإن الحياة ستظل فى نظرى جميلة وضاحكة والإنسان وحده .. هو الذى يسود وجهها ..




=====================================  
نشرت القصة فى المجموعة التى تحمل اسم " السفينة الذهبية " لمحمود البدوى عام 1971 وأعيد  " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
=====================================

                                                    









العطر

كان يتحرك فى طول الشارع وبصره يتبع الجوارب الشفافة التى كانت تمضى فى رشاقة وسرعة اتقاء للمطر الذى أخذ ينهمر فجأة فى قلب القاهرة ..
وكان النسوة يكثرن فى الطرقات على غير عادة بسبب " الأوكازيون " الذى بدأ منذ يومين فى المتاجر ..
وبعد التسوق أخذن طريقهن إلى العربات الخاصة وسيارات التاكسى .. ولكن الغالبية منهن تجمعت عند محطات الترام والأتوبيس ..
وكان منظر النساء المهرولات تحت المطر وزفيف الريح قد أثار حسين وشد أعصابه فأخذ يتعقبهن بعين الصقر .. إلى أن تخير سيدة شابة كانت تعبر الشارع أمام سينما مترو .. فتبعها فى كل خطوة .. وكانت جميلة جمالا مثيرا .. وأنيقة أناقة تامة فى ملبسها .. ولم يستطع المعطف الذى ضم جسمها أن يخفى الجورب الشفاف الذى أبرز جمال ساقيها .. وجعل بياضها الحليبى مع المعطف الداكن أشد المناظر فتنة ..
وطاردها بحذر حتى رآها تتجه إلى ميدان التوفيقية .. ثم تنتظر هناك عند موقف سيارات التاكسى المشتركة المتجهة إلى مصر الجديدة .. فوقف على بعد خطوات منها يراقبها دون أن يجعلها تلاحظ ذلك .. وكانت واقفة فى سكون وتحمل على صدرها لفتين كبيرتين ضمتهما إليها بكلتا يديها .. وأخذت بعينها تستجير بالتاكسيات العابرة لتنقذها من حملها .. ولكن لم يستجب لطلبها سائق ..
وبدأ الإيشارب الذى يغطى شعرها الأسود ويدور حول العنق العاجى تتحرك أطرافه مع الهواء الشديد .. فانتقلت تحت باكيه هناك لتكون بنجوة من الريح ..
وأدرك حسين من نظرته الأولى إليها أنها خرجت وهى مستعدة للمطر .. وتقلبات الجو ..
وطالت الوقفة .. إذ لم يقف تاكسى واحد حتى بعد أن انقطع سيل المطر ..
ثم جاء تاكسى أخيرا .. وكان الزحام قد خف .. فركبت السيدة فى المقعد الخلفى وركب راكب آخر بجانب السائق ووقف حسين متمهلا على الرصيف ثم تقدم بتؤدة وركب مع السيدة فى المقعد الخلفى ..
***
وقال السائق بعد أن يئس ممن يكمل العدد :
ـ نطلع .. بثلاثة .. والنفر ب 15 قرشا ..؟
فرد عليه حسين وهو ينظر إلى السيدة والراكب الآخر :
ـ أطلع .. قابلين ..
فتحرك بالعربة ..
ولما بلغوا شارع رمسيس عاد المطر ينهمر والشوارع كلها تبدو كالمغسولة ..
وكان شارع رمسيس يموج فى هذه اللحظة بالسيارات الكبيرة والصغيرة وعند كل وقفة مرور .. تخرج السيارات مندفعة كأنها خارجة من عنق زجاجة ..
وأخذ حسين يراقب كل ما هو على يمينه بهدوء .. ولم يكن قد حول وجهه إلى ناحية اليسار قط حيث تجلس السيدة الراكبة بجواره .. وكانت هى ساكنة الملامح ونظرها إلى الأمام .. ووجهها الأبيض يبدو ظاهرا بوضوح فى مرآة السائق ..
وكان حسين منذ أخذ يطاردها فى شارع طلعت حرب قد اشتم منها رائحة عطر هادئة .. أثارته .. وذكرته بشىء انتفض له .. ولكنه ضغط على أعصابه .. والعطر لايزال يفوح فى السيارة .. وتبدو رائحته فى هذا المجال الضيق .. ونوافذ السيارة مغلقة .. أشد شىء إثارة له ..
وظل طوال تحرك السيارة يتجنب النظر إليها مباشرة والتحديق فى وجهها .. وظلت هى جالسة صامتة تحدق فى العربات المارة بجوارها عن يسار .. وفى سيل المطر الذى كان لايزال مندفعا .. ووضعت الربطتين بجوارها عن يمين وبجانب حسين مباشرة .. أما حقيبة يدها فقد أراحتها على فخذيها .. وغطت ما ظهر من بياض الركبة التى لم يغطها المعطف المنزلق ولا الجونلة القصيرة .. وكانت لا تفتأ تحرك الحقيبة إلى الأمام أو الخلف .. كلما تغير وضعها تبعا لهزات السيارة ..
ومع أنه بدا غير ملاحظ لها ولكنه كان من جانب عينيه يراقب كل حركاتها .. ورأى الخاتم الذى فى يدها اليمنى .. والعقد الذى فى جيدها .. وقدر سنها .. على التخمين بستة وعشرين عاما .. وأنها على الأرجح غير متزوجة كما أنها ليست موظفة .. وتبدو من هندامها ونضارة وجهها فى يسر من العيش ولا تشكو هما .. كما لاحظ من جلستها المستكنة أنها وديعة للغاية .. وظاهرة الخجل ..
وكان العطر رغم أن المسافة من ميدان التوفيقية إلى مشارف مصر الجديدة قد استغرقت حوالى نصف الساعة .. لايزال يشمه فى خياشيمه .. ويذكره بحادث قديم ود لو يطويه .. فى أعماق النسيان ..
ولكنه عاد إليه الآن بكل صورته الماضية .. فأرجف أعصابه .. ولكنه ضغط عليها وتماسك وظل صلبا ..
وعندما استدارت السيارة لتدخل فى شارع ابراهيم بمصر الجديدة سمع السيدة تحدث السائق بصوت خافت :
ـ تسمح على اليمين يا أسطى ..
ـ أأدخل فى هذا الشارع ..؟
ـ نعم .. أعمل معروفا .. فالمطر نازل .. وأنا أحمل شيلة ..
ـ حاضر ..
ومالت السيارة إلى اليمين وأمام منزل من أربعة طوابق توقفت وانحنت السيدة لتحمل الربطتين ..
وسقط منها شىء صغير وهى تضم الربطتين على صدرها ورأى حسين ما حدث ولكنه لم ينبس ..
وقال لها السائق وهى تنقده الأجرة :
ـ أأحمل لك الأشياء يا سيدتى ..؟
ـ لا .. شكرا .. أنا ساكنه فى أول دور ..
وسمع حسين هذا الحوار وهو ينصت جيدا ومد يده سريعا وتناول الكيس الصغير الذى سقط منها وهى خارجة من السيارة ووضعه فى جيبه وأحس بمتعة .. وهو يفعل هذا ..
***
وفى اليوم التالى كان حسين يتجه بالأتوبيس إلى مصر الجديدة قاصدا مسكن هذه السيدة وسار فى الشارع الذى فيه بيتها .. وأخذ من بعيد يتطلع إلى النوافذ .. كان يريد أن يراها .. ليعرف الشقة دون أن يسأل أحدا .. ولاحظ البيت عن قرب .. لقد سمعها تقول عندما كانت فى التاكسى أمس أنها تسكن فى الدور الأول .. فهل تقصد الدور الأرضى .. أم الذى فوقه .. كما وجد أيضا أن فى الدور الواحد أربع شقق ففى أيها تقيم يا ترى ..؟ احتار ماذا يفعل .. أخذ يروح ويجىء فى الشارع بحذر ولكنه لم يشاهد حتى خيالها فعاد إلى القاهرة ..
وبعد يومين جاء إلى نفس الشارع .. ساعة الغروب وساعده الحظ إذ رآها تحرك مصراع الشرفة .. وتوارى سريعا حتى لا تراه ..
وبعد ساعة عندما خفت الحركة فى الشارع وخيم الظلام .. ضغط على الجرس ..
وفتحت هى الباب .. ووقفت تحدق فى وجهه وتحاول أن تتذكر أين رأت هذا الوجه من قبل .. وقطع عليها خط تفكيرها .. بأن قدم لها الكيس الصغير وهو يقول :
ـ لقد نسيت هذا فى التاكسى .. ولى أيام وأنا أبحث عن المنزل ..
وتملكها سرور طاغ ..
ـ شكرا .. شكرا .. تفضل ..
ـ آسف .. أنا مسافر اسكندرية .. أريد أن الحق قطار ثمانية .. فاتنى أتوبيس الصحراوية .. بسبب الكيس .. فقد تذكرته فى آخر لحظة ..
ـ طيب تفضل شوية .. أظن الوقت بدرى ..
ودخل ..
ورأته أمامها شابا وسيما متوسط الطول ناحل الجسم .. ولاحظت أنه متأنق .. ويلبس نفس البدلة التى رأته مرتديها فى التاكسى ..
وكان لايزال ممسكا بيده حقيبة صغيرة .. حتى بعد أن جلس فى البهو .. ولكنه بعد قليل أراحها على البساط .. وقالت بعذوبة :
ـ لقد كنت أنا إذن السبب فى أن فاتك الأتوبيس ..
ـ الواقع أننى تذكرت الكيس .. قبل موعد السيارة بدقائق وقلت لا بد أن أوصله لك أولا ..
ـ كم أشكرك ..
ـ هذا واجب ..
ـ عن اذنك دقيقة ..
ومشت بنعومة إلى الداخل ..
وأخذ حسين يحدق فى كل ما حوله .. ولاحظ أنها تسكن فى شقة صغيرة وأنها وحدها فى هذه الساعة إذ لم يسمع فى الداخل سوى صوتها ..
وكان أثاث البيت كله بسيطا ولكنه جميل وعلى غاية من التنسيق .. والصور على الجدران تكاد تكون قليلة واستعيض عنها بزهور صناعية وقناديل مزركشة تشع من الأركان ..
واسترسل معها فى الحديث وهى تقدم له الحلوى .. ونسى أنه حدثها أنه مسافر ويود أن يلحق آخر قطار ..
كانت ترتدى جونلة وبلوزة سمراوين ولا يدرى أكان ذلك للحداد أم تمشيا مع آخر طراز فى الزى للنساء الشابات المتأنقات ..
وكان السواد قد زادها تألقا وجمالا ..
ورأى فى ساقيها نفس الجورب الشفاف الذى أسره وجعل قلبه يرتجف ..
كما شاهد وهى جالسة فى هدوء وضامة فخذيها دنتلة القميص التحتى .. وكان أزرق خفيفا والدانتلة تبدو فى عرض خمس بوصات .. وطرفها على الركبة التى بدت له بنعومتها وصفاء لونها .. لا عظام فيها .. وأهاجه المنظر .. ولكنه ضغط على نفسه وتماسك ..
***
ولرقتها وهدوئها .. كان يود لو يضمها .. ولكنه كان يرد نفسه ويتماسك .. كأن شيئا فى أعماقه يحدثه بأنها تخاف وقع المفاجأة ..
وطفق يتأملها فى سكون .. وشعر بالارتياح .. عندما لم يجد فى البيت أى دليل على وجود الرجل .. لا عصا .. ولا معطفا معلقا .. ولا أى شىء آخر يدل على وجوده ..
كان كل ما حوله نسائيا .. فاستراح ولكن احساسه بأنه أمام انسان هادىء وجميل .. أعاد إليه التشتت الذى هبط عليه وهو يدور حول البيت قبل أن يدخل ..
وغابت قليلا ثم عادت تحمل صينية عليها الشاى والبسكويت وقربت منها الطاولة التى وضعت عليها الصينية ..
ورأته ينظر إلى صورة أمامه .. فنظرت حيث ينظر .. وقال :
ـ صورة جميلة ..
ـ أعجبتك ..؟
ـ جدا .. من أين جئت بها ..
ـ وجدتها عند بائع فى بدروم بشارع شريف واشتريتها بجنيهين ..
ـ رخيصة جدا .. أن فيها منظرا رائعا وأظننى شاهدت مثله فى فيلم ..
ـ أى فيلم ..؟
ـ ايرما الغانية غالبا .. أشاهدته ..؟
ـ أجل .. جميل .. وطبيعى ..
ـ وهل أعجبتك شيرلى ماكلين .. أم الممثل .. الذى قام بدور البطولة ..
ـ أعجبت بالإثنين فى الواقع .. وقد يكون الممثل أكثر ..
وابتسمت بنعومة ..
وأخذت تصب الشاى .. وتأمل أناملها الدقيقة .. وهى عارية هذه المرة .. إلا من خاتم صغير .. كانت اليد نحيلة وجميلة وأخذ وهو يتأملها يساوره شعور بالتوقف .. وانقطع النور فجأة وتوقف عن الكلام وظل صامتا وقد أرجف قلبه لحظات حتى رآها تقول له :
ـ عن اذنك سأجىء بشمعة ..
وجاءت بالشمعة سريعا ..
وعلى ضوئها الخفيف بدت أكثر جمالا ..
وسألته بدماثة .. بعد أن صبت الشاى فى الفنجانين ..
ـ يمكن تحبه باللبن ..؟
ـ باللبن أحسن فى الواقع ..
وغابت مرة أخرى ورقص قلبه من الفرح .. إذ أخرج زجاجة صغيرة من جيبه وصب منها فى فنجانها ..
وجاءت بدورق اللبن وحركت الصينية والفناجين سريعا دون أن يشعر هو بحركتها لتضع الدورق بينهما .. ثم قربت الطاولة أمامها وأخذت تصب اللبن فى فنجانه .. وقدمت له الفنجان .. وأخذ يشرب ..
ولما رفعت الفنجان إلى شفتيها .. حول وجهه عنها .. وسألته :
ـ حضرتك من اسكندرية ..؟
ـ أجل ..
ـ ممكن تبحث لى عن شقة على البحر ..
ـ حاضر .. فى أى حى ..؟
ـ فى اسبورتنج لأنى أحب أنزل محطة الرمل كثيرا ..
ـ هذا اختيار حسن فى الواقع ..
ونظرت إليه بدماثة ..
كانت الليلة باردة وأحس بعد الشاى بالدفء ..
وكان مذ دخل البيت وتأكد من أنها وحيدة .. يحاول أن يجد الحيلة ليبقى معها هذه الليلة ..
وتعمد أن يتحدث عن إيرما الغانية ليجد وقع هذا الحديث على نفسها فلم يجد منها صدودا ..
بل على العكس سرت به واستزادت منه ..
وسمع طرقا على الشقة المجاورة بعنف .. وأدهشه ذلك فالحى هادىء ولا يسكنه من لايراعون حقوق الجوار وعاد إلى هدوئه .. كما خيم السكون وانقطع الطرق .. وتلاشى وقع أقدام نازلة على السلم ..
وبدا له من احساسه وهو فى الداخل أن المطر لا يزال يتدفق بعنف وأن الهواء يعصف فى الخارج ..
وحملت صينية الشاى وعادت بها إلى المطبخ ..
وأخذ يتفحص الشقة .. أبوابها وشبابيكها .. وقدر أنها من مبانى الشركة وأن إيجارها ولاشك رخيص ..
وكان فى البهو رف عليه بعض المجلات المصورة وصحيفة يومية موضوعة بعناية على الصف الثانى من منضدة لها قاعدة ..
ثم تماثيل صغيرة ودقيقة فى الأركان والزوايا .. ولوحة زيتية كبيرة واحدة ..
وكان هناك باب يقود إلى حجرة .. وقدر أنها حجرة النوم .. إذ كان على الباب ستار يتحرك بالجذب .. مثل ستار المسارح .. وسمع صوت شىء ينش على النار ..
وراح يحدق فى البهو وقد ساورته النشوة ..
ثم سمعها تدخل الحمام وسمع شد السيفون وتكة الماء فى الصنبور .. ودخلت عليه بعد قليل وهى تحمل طبقا من الساندوتش وكانت قد غيرت ملابسها .. وارتدت قميصا فى لون العناب وفوقه روب دى شامبر أحمر .. فى خطوط بنفسجية وكان شعرها الطويل قد أسدل وراء ظهرها ووجهها ظهر بعد أن أغتسل بالماء الساخن .. متوردا .. أشد شىء فتنة ..
وجلست بجواره على كرسى صغير وهى تنظر إلى عينيه وتناول يدها ولمسها بأطراف شفتيه وسحبتها برقة ..
ـ ما لك ..؟
ـ لا شىء .. وإنما العفو ..
وابتسم .. وظل فى مكانه ..
وتحركت فى الشقة كأنها تستوثق من أنها أغلقت جميع النوافذ والأبواب بعد أن سمعت صوت المطر وزفيف الريح .. وخامره إحساس غريب متسلط .. وأخذت أفكاره تحوم ..
وعادت وجلست قبالته تنظر إليه باعجاب ..
وراح يتأملها وقد أفرجت ساقيها .. وانحنت قليلا إلى الأمام كأنها تهم بتناول شىء ..
فقال وهو يعرض حركة بارعة :
ـ أكتبى لى عنوانك قبل أن ننسى .. واسمحى لى بأن أستأذن ..
ـ على فين ..؟
ـ سأحاول أن أعثر على لوكاندة هنا .. وفى الصباح سآخذ أول أتوبيس صحراوى من ميدان الإسماعيلية ..
ـ لا توجد لوكاندات فى مصر الجديدة ..
ـ قط ..
ـ لا توجد سوى هليوبوليس الصغيرة .. وهى مشغولة .. بطيارى شركات الطيران .. ولا أحسبك ستجد غرفة خالية ..
ـ ما الذى أعمله لا بد من البحث عن غرفة .. وقد أقضى الليل فى القاهرة ..
ـ تفضل ونام هنا .. فالساعة قد تجاوزت التاسعة ..
ـ قد أضايقك .. وقد أسبب لك حرجا .. إذ ..
ـ اطمئن أنا أعيش وحدى .. والخادمة فى أجازة العيد .. وأحس بالهناء ..
***
وقالت برقة وهى تهىء له الفراش :
 ـ ليس لدى بيجامة رجالى ..
ـ لا تشغلى نفسك .. سأدبر الأمر لنفسى ..
وفرشت له مرتبة فى غرفة الجلوس .. الصغيرة ..
وكان جالسا على الكرسى يفك رباط حذائه .. وعندما جاءت بملاءة وبطانية سقطت منها البطانية على الأرض فهم ليساعدها فى التقاطها .. فالتقت أيديهما ووجد نفسه يمسك بيدها ويشدها إليه بعنف .. وتدحرجت معه على المرتبة قبل أن يشعر بها ..
وانحنى فوقها وجعل شفتيه يشربان من رضابها ..
***
وأحس وهو يحتضنها بحالة توتر قاتلة وبشىء يمزق أحشاءه فابتعد عنها والعرق يتصبب على جبهته ..
وسألته وقد أدركت حالته :
ـ مالك ..؟
ـ لا شىء .. حالة تنتابنى ..
ـ استرح .. نم قليلا ..
وأغلق عينيه وأحس بأمعائه تتلوى وسكاكين تنهش فى بطنه .. لقد شرب السم الذى كان يود أن يسقيه لهذه السيدة بغلظة أرادها القدر .. السيدة التى كان يود موتها لأنها تشبه زوجته التى خانته منذ ثلاث سنوات وتحمل نفس العطر الذى اشتمه من زوجته عندما فاجأها بالخيانة .. فهربت منه ولم يستطع قتلها ثم اختفت إلى الأبد .. وظل يطارد كل ما يشبهها من النساء .. حتى وجد هذه فأراد موتها ولكن تدخل القدر دون أن يدرى أو تدرى هى ما حدث عندما حركت الفنجانين بحركة خفيفة .. وهى تضع دورق اللبن ..
بعد منتصف الليل أدركت السيدة أنه مات .. وكتمت صرخة خرجت من أعماقها ..
***
وبحثت بحركة عصبية فى جيوبه فعرفت اسمه .. ووجدت الزجاجة الصغيرة التى صب منها السم .. الذى كان يود أن يسقيه لها .. دون سبب تعرفه ..
قد يكون مجنونا .. ساقه القدر إليها فى ليلة عاصفة ولكن الله لطف بها .. وأنجاها من شره ..
وجلست فى الفراش وهى ترتعش من الخوف .. ثم دفعتها غريزة البقاء إلى أن تتحرك وتتحرك لتفعل شيئا .. قبل أن تلصق بها جريمة لم ترتكبها ..
***
وذهبت إلى الحمام واغتسلت وأحست ببرودة الماء على وجهها فاستفاقت ..
وكانت وهى تحت الصنبور .. تحس بما جرى أكثر وأكثر .. وعجبت أنها لا تزال تعيش فى بيت واحد مع الرجل الذى كان يود صرعها .. وأنها على قيد خطوات منه .. ولا يزال جسده فى بيتها ..
وذهبت إلى المطبخ فوجدته دافئا .. وأشعلت البوتاجاز .. ووضعت غلاية على النار ..
وأخذت تحس .. وهى جالسة متيقظة فى المطبخ .. بحركة المدينة .. وسقوط المطر .. وكانت مواجهتها لذلك الغول الوحشى أكثر مما تحتمله أعصابها .. وبحثت فى صيدليتها الصغيرة عن حبوب مخدرة ومنومة يمكن أن تخفف ألمها أو وقع الأمر على نفسها أو تنسيها ما حدث ولكنها لم تعثر على شىء اطلاقا .. كيف تعرف المصير ..
راقبته والقلق يمزقها .. كانت تعرف أن العاصفة قد انقضت عليها .. كانت تدرك أنه مات ..
كانت تحس الشر يزحف عليها كالثعبان الأسود فى عتمة الليل .. وكان الليل مبهما مهولا ..
***
وزحفت يدها إلى سترته .. وتحسست لحمه فانفتحت عيناها رعبا ..
كانت تريد أن تسحبه من فوق الفراش إلى الأرض .. ولكنها تجمدت من الخوف .. وأخذت شفتاها ترتعشان وتصطكان بأسنانها .. أغلقت مصباح النور .. وظلت سادرة فى قلب الظلمة .. ولكن عقلها الذى تصورته قد انشل ظل يعمل ..
فعادت وأشعلت المصباح الجانبى .. وهداها تفكيرها بأن تتخلص من الرجل قبل أن يطلع النور ..
فأسرعت وجرت الميت من داخل الشقة حتى أوصلته إلى الباب وقد أوتيت قوة كبيرة ساعدتها على ذلك ..
وكان سحبه على السلالم النازلة أسهل من سحبه على البلاط ولكن خشيت من فتح الباب ..
ثم فتحته بحذر شديد وتطلعت فلم تر غير الظلام والسكون ..
ٍكان الخوف قد شد من عزمها .. فجرته من رجليه حتى أخرجته من الباب ..
ومع أنه كانت هناك أربعة أبواب أخرى مشتركة مع بابها .. فى هذه البسطة .. ولكنها رأت أن تنزله .. إلى البسطة التحتية ..
وبمشقة أنزلته وتركته .. تحت السلم فى مدخل البيت .. ليكون قاسما مشتركا بين السكان جميعا ..
وعندما أغلقت عليها الباب .. تنبهت إلى شىء سريعا .. ففتحت حقيبته الصغيرة .. وأحرقت كل ما وجدته فيها على النار ..
ولما خمدت النار .. ارتمت شاردة فى الصالة وبصرها معلق على باب الشقة الذى تربسته وأغلقته بالمفتاح .. وكانت قد قررت ألا تفتحه لطارق أبدا مهما كانت الأحوال ..



========================
نشرت القصة فى مجلة القصة بالعدد 17 فى شهر مايو سنة 1965 وأعيد نشرها فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971
======================= 


المثالة

التقيت بثريا لأول مرة فى معرض مثال فنان أقامه بشارع الانتكخانة .. وكانت تقف وحدها فى " زاوية " من المكان تتأمل تمثالا بالغ الروعة لعامل مصرى يشتغل فى السد وقدمنى المثال لها على أنها فنانة موهوبة من طراز متفتح ..
ووجدتها شابة جذابة رقيقة المشاعر جدا ويشغل الفن كل وقتها وحسها ..
ومع أنه كان أول لقاء لنا .. ولكن عندما جلسنا نستريح قليلا ونشرب القهوة .. أخذت تحدثنى عن كثير من خصوصياتها .. كزواجها الفاشل الذى لم يستمر أكثر من خمسة شهور .. ووفاة والديها وهى فى سن صغيرة وكفالة جدها لها .. وتعليمها بالمدارس الأجنبية فى القسم الداخلى .. وسفرها إلى أوربا .. ورغم أنها متحررة ولكنها تشعر دائما بالقلق .. ولعل حياتها فى المدارس الداخلية الأجنبية أبعدتها عن فهم الحياة المصرية وعقدتها ..
ولاحظت ونحن نتحرك فى الشارع أنها لا تحب ركوب الأتوبيس ولا الترام اطلاقا ولا تطيق الزحام وتحس بالفزع بعد كل خطوة متى كانت وحدها ..
وحدثتنى أنها لهذا السبب يندر خروجها من بيتها وكل عملها فى النحت جعلته فى البيت .. وهى رهينتة فى النهار والليل ..
وأظهرت لى رغبتها فى أن أرى تماثيلها.. ومدى تفوقها فى هذا المضمار .. ولما كنت أهوى النحت .. وكانت الشابة الجميلة قد هزت مشاعرى فى مدى اللحظات القليلة التى التقينا فيها .. لذلك لبيت دعوتها سريعا لزيارتها فى بيتها لأرى نحتها إذ كان يسرنى جدا أن أرى فتاة مصرية تقوم بهذا العمل ..
***
وكانت تقيم فى شقة جميلة بشارع الشيخ حمزة فى حى قصر النيل .. شقة فنانة أصيلة .. وتشغلها كلها بعملها كنحاتة .. حتى فى غرفة نومها وجدت فيها تمثالين من صنعها ..
وكانت ترتدى بلوزة صوفية حمراء على بنطلون من الفانلة الرمادى .. وفى فمها السيجارة عندما فتحت لى الباب بحذر شديد .. وقادتنى إلى الداخل ..
وكان يبدو على عينيها السهر والتعب معا .. وطالعنى من البيت سكون وجمال حببانى إليها وإلى بيتها ..
ودخلت علينا شغالة مسنة بالشاى .. وحدثتنى ثريا أنها الوحيدة التى تقيم معها وأنها تلازمها منذ كانت طفلة ملازمة الظل ..
وكانت " سكينة " تقترب من الستين .. وديعة مثل سيدتها وجعلت البيت رغم الصلصال فى نظافة البللور ..
ولأن سيدتها وحيدة وقلقة وتتوجس شرا من كل طارق فهى تغلق النوافذ والمناور .. وتفتح شراعة الباب الخارجى بحذر .. وغفرت لها توجسها وخوفها ما دام ليس فى البيت رجل ..
وخرجنا فى نفس المساء نتمشى .. ثم دخلنا السينما لنشاهد فيلم عالم مجنون .. مجنون .. وضحكنا بقلب طروب .. فقد عرى المخرج والمؤلف العالم كله .. ومزق ثوب الرياء الذى يلبسه وكشفه من خلال مواقف مضحكة .. فدوامة البنكنوت تلفنا جميعا وستظل أزلية .. ما دامت الحياة ..
ووجدت نفسى فى خلال عشرة أيام لا أستطيع أن أفارق ثريا لحظة .. فكنا نأكل فى الطريق .. ونذهب إلى ضواحى القاهرة .. وإلى الإسكندرية .. وطنطا .. والمنصورة لنكون وحيدين وبنجوة من العيون ..
وبلغ غرامى بها وتفرغى لها .. إلى الحد الذى أهملت فيه عملى وكنت أختلق المعاذير لأبقى معها فى البيت ..
ولم أكن وأنا فى قمة النشوة أعرف أنه يوجد عاشقان آخران فى الدنيا مثلنا ..
وتحت تأثير هذا تزوجنا رغم الفارق الكبير الذى بيننا فى السن .. فقد كنت أكبرها بسنوات كثيرة ..
وزادها الزواج نضارة ..
وكانت تعرف كراهيتى الشديدة للتدخين وانقطعت عنه .. وهى تصارع العادة .. المتحكمة فى ألياف الأعصاب حتى صرعتها أخيرا..
واستراحت بعدها .. وأخذت تعطينى من نفسها أكثر مما كنت أنتظر من أنثى ..
وكانت حريصة على أن تتزين لى وتتعطر بشكل يشعرنى بالبهجة ..
ولاحظت فى الشهور الأولى من زواجنا أنها كفت عن النحت ثم عادت إليه فى تمهل ..
وكان الوجه الصارخ بالعذاب قد انمحى تماما من تماثيلها .. فكل أنثى رأيتها من صنيعها كانت تصرخ من شىء يتمزق فى أعماقها ..
أما وجوه الرجال فكانت تكرر فيهم صورة زوجها السابق .. وهى لا تدرى .. وقد عرفته دون أن أراه من مجرد مشاهدة نحتها ..
كان قد خيب أملها تماما .. وهز الصورة التى كانت تتمناها وتريدها للرجل ..
وكعادتها بعد كل عمل فى التماثيل .. كانت تأخذ حماما ساخنا .. وكان ذلك بمعدل مرتين فى اليوم .. وتخرج من الحمام بالروب نشوى محلولة الشعر .. ويضرج وجنتيها الدم .. وعلى خدها حبات من الماء تتساقط بيضاء بعد أن تذوب على خدها الناعس .. وكانت عيناها تلمعان ببريق غريب بعد كل حمام .. كأنها تستمتع به أكثر من أى شىء آخر أو لأن الحمام كان يتبعه دائما العناق الحار .. وكنت آخذها بين ذراعى .. وأشم عطرها وألمس البشرة الناعمة فى لون الحليب المصفى .. لم تكن هناك أنثى فى مثل جمالها فى هذه الساعة ..
***
ولأنها كانت لا تجيد أى صنف من صنوف الطهى .. فقد كنا نأكل كما اتفق وغالبا من المشويات واللحوم الخفيفة .. إذ أن الشغالة كانت فى مستواها أيضا ..
وكنت أقوم بالدعاية الفنية لشركة من شركات السياحة وأعمل فى ارهاق .. فأخذت أختلق الأسباب للسفر .. وآخذها معى ..
وكانت متعتها الكبرى أن تذهب إلى الريف .. فكنا نركب قطار المناشى .. أو قطار المرج فى الصباح .. ونعود بعد أن تكون قد قضينا يوما مشرقا بين الحقول ..
وكانت فى ذلك اليوم تتخفف من ملابسها .. وتطلق نفسها على سجيتها .. وتتأمل فى عمق كل ما تراه حولها .. وعندما تأخذ بعد ذلك فى النحت .. يكون عملها طبيعيا وفيه انفعال الفنان الصادق .. وقد تغير عملها بعد زواجنا تغيرا جذريا .. وكنت أشجعها وأود أن أجعل منها شيئا كبيرا ..
وكنت أقرأ على وجهها الخوف .. إذا تأخرت فى المساء عن موعد عودتى إلى البيت وكانت تحتضنى بقوة .. وتطلب منى ألا أتأخر مرة أخرى .. وإلا سيصيبها الخبل .. وكنت أرجع ذلك لقلقها علىّ من حوادث الطريق واطمئنها ..
وفى ليلة من الليالى .. عدت إلى البيت .. فى حوالى الساعة التاسعة مساء .. وفتحت الباب .. فلم أجدها فى استقبالى كالعادة وطالعنى السكون ..
وكانت الصالة مضاءة وجريت إلى غرفة نومها .. فلم أجدها .. نائمة ثم وجدت الضوء فى الحمام .. فأدركت أنها تستحم كعادتها ..
ولما طال مكوثها فى الحمام .. انتابنى الخوف ومشيت نحو الباب .. وطرقته فلم يرد علىّ أحد فارتجف بدنى .. وعالجت الباب بالقوة حتى انفتح ووجدتها ملقاة فى البانيو .. وقد أغمى عليها من الغاز ..
وجثوت على ركبتى وأنا احتضن جسمها .. وكانت الدنيا تدور بى إلى أن فتحت عينيها وحملتها برفق إلى الفراش .. وأخذت أدلك جسمها وأساعد على تنفسها ..
ودق جرس التليفون فى تلك الساعة ولما كانت الشغالة نائمة فقد تركت ثريا ورفعت السماعة فسمعت صوت رجل ولما سمع صوتى أغلق الخط .. وكانت ثريا متنبهة لما حدث رغم ضعفها ..
وسألتنى :
ـ من ..؟
ـ الظاهر .. النمرة غلط ..
وكان جرس صوتى طبيعيا .. ولكنى لاحظت أن وجه ثريا امتقع وظهر عليها اضطراب شديد .. لم أكن أتوقعه .. فهذه الأشياء الصغيرة كثيرة الحدوث ولكن اضطرابها بذر بذور الشك فى نفسى ورغم ثقتى المطلقة فيها ولكننى وجدت شيئا ينغصنى فى الحال .. شيئا لم أتوقعه مطلقا ..
وأخذت أتنبه إلى جرس التليفون كلما كنت فى البيت ولاحظت أن وجهها كان يصفر كلما سمعت رنينه ..
وتكرر الأمر على نمط واحد فى الصباح والمساء إذ عاد نفس الصوت إلى التليفون ولما أرفع السماعة يغلق الخط بمجرد سماع صوتى ..
وقدرت أن الأمر مجرد عبث فارغ وقدرت غيره ولكنى على أية حال وجدت ما ينكد عيشى ..
واستمر الحال على ذلك أياما .. عشناها فى عذاب وصمت ..
إلى أن حدث فى صباح يوم فى ساعة الافطار .. وكانت الشغالة قد وضعت جريدة الصباح فى جانب من المائدة .. فلمحت ثريا صورة فى الصفحة الأولى فتناولت الجريدة بلهفة وعلى حال من الانفعال لم أرها على وجهها أبدا .. وصرخت :
ـ إنه .. مدحت ..
وقرأت حادثا مروعا وقع فى الطريق الصحراوى وصورة شاب وقد صرع وهو يقود سيارته بسرعة فى الطريق ..
وحدثتنى ثريا أنه زوجها السابق وأنه هو الذى كان يدق التليفون يوميا ويهددها بالقتل إن لم ترجع إليه وزاد تهديده ووعيده لما علم بزواجها منى ..
وكانت المسكينة تتلقى هذا التهديد فى صمت ولكن على حساب أعصابها ..
واحتضنتها .. وفتحنا كل النوافذ لنستقبل نسيم الصباح الجميل ..
======================= 
نشرت القصة فى مجلة روز اليوسف بتاريخ 4/7/1966 وأعيد نشرها فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971
=========================    


الخيط الذى فى السماء

فى بداية الصيف تشتد آلام الروماتيزم فى ساقى .. ويبدأ العذاب فى طاحونة الحاج " عبد المجيد " وأنا كاتب الطاحونة .. وفى الواقع القائم بكل الأعمال ..
ولم يكن الحاج عبد المجيد صاحب وابور طحين أبدا فى يوم من الأيام ولا كانت هذه صنعته ولكنه نقل الوابور من أرضه لما تحول الرى بالمشروع .. نقله على ترعة الابراهيمية قريبا من محطة " الزهراء " .. وجعله للطحين وكان موقعا ممتازا .. أمامه محطة السكة الحديد .. وخلفه السوق .. وحوله القرى والمزارع .. وكانت الماكينة من قوة مائة حصان من أحسن ما رأيت فى طراز الآلات التى تقوم على البارد ..
وكنا نشتغل من بداية الشروق إلى الساعة الثامنة مساء ونسهر فى يوم السوق وفى المواسم والأعياد .. إلى الصباح ..
وكنت أحس بالروماتيزم ينهش ساقى عندما يشتد الضغط على الوابور .. واضطر للتحرك .. ولم أكن أعرف لعلتى المزمنة سببا ..
ولم أجد أمامى إلا أجزاخانة " مراد " أجزخانة قديمة .. وكانت قريبة من المحطة .. وصاحبها صيدلى عجوز معروف جدا فى المنطقة كلها وعنده أكبر مخزن أدوية فى الصعيد .. وكان يتاجر فى القطن أيضا يشتريه من الفلاحين .. فى بداية الموسم .. ليبيعه فى نهايته بأعلى الأسعار .. وكانت أرباحه لا حدود لها .. وكان عنده حاسة سادسة للتنبؤ على المدى البعيد بالدواء الذى سينقص من السوق .. فيخزنه ليتحكم ..
وكان متزوجا من سيدة فى حوالى الأربعين من عمرها ولم ينجب منها ذرية .. ولم أكن أراها إلا صاعدة إلى المحطة أو نازلة منها وفى يدها حقيبة صغيرة .. وكانت طبيبة فى القاهرة ..
وعندما يشتد الألم ويصعب علىّ جر ساقى .. ألجأ إليه وفى عينى الضراعة .. ولكنه كان يعاملنى أبدا بمكر الثعلب ومراوغته ..
ففى كل الحالات الدواء المكتوب فى الروشتة غير موجود .. وعنده بديله .. أو ما هو أحسن منه .. تركيبة خاصة من صنعه ..
ولم تكن التركيبة تحتوى على أكثر من الماء الملون الممزوج ببعض العقاقير الرخيصة .. كانت الاشاعات كثيرة عنه ..
وكثير من الفلاحين يعرفون أنه يخدعهم ويحقنهم بالماء .. ومع ذلك فإنهم كانوا يتقاطرون على الأجزخانة ويشتد الزحام فى أيام السوق إلى درجة تثير العجب ..
والعجيب أن تسعة أعشار المرضى كانوا يشفون فعلا من الحقنة تحت تأثير الايحاء أو بمحض المصادفة ..
كانت عجلة الرجل تدور بسرعة والزمن يأتيه بما لم يكن فى خاطره .. وعلى مر السنين جمع ثروة ضخمة .. وكانت معظم الصيدليات الكبيرة حتى التى فى " المنيا " .. تطلب حاجتها منه ..
وكان فى معظم وقته مشغولا بالحقن .. يحقن هو بنفسه .. ويبيع العقاقير للفلاحين بيده وليس فى الأجزخانة " تمورجى " يساعده .. وإنما عنده فراش واحد يحمل له الطرود من محطة السكة الحديد .. أو من موقف السيارات ..
وفى كل الحالات تجد لديه جميع الأدوية التى أوقف استيرادها .. وكان يبيعها للأغنياء بالثمن الذى يطلبه ..
***
كانت الأجزخانة على جسر الترعة وفى طريق السيارات الذاهبة إلى القاهرة أو الراجعة منها .. فى نهاية صف من البيوت الحديثة .. متوسطة الاتساع ومقسمة قسمين قسم فى الداخل جعله مخزنا وقسم فى الخارج وفيه يبيع ويستقبل الجمهور ..
وفى الخارج فترينة زجاجية .. وضع فيها بعض علب الأدوية وقد علاها التراب ..
وكان بالأجزخانة سلم من الداخل يفضى إلى سكنه .. إذ كان يسكن فى طابق بناه لنفسه فوقها .. ليكون قريبا من عمله .. وتحت هذا السلم الداخلى .. سقيفة .. اتخذها ليحقن فيها المرضى .. وضع فيها منضدة ووابورا وطاسة من الألومنيوم بجانبها لفة القطن وزجاجة السبرتو .. والحقنة فارغة ومستعدة لكل من يطلبها ..
وكنت كثير التردد على الأجزخانة .. لأنى أستعمل تليفونها فيما نطلبه للطاحونة من البندر .. نتصل بالورشة .. لأى عطل .. يحدث فجأة .. أو نطلب فناطيس البترول .. والزيت .. وكان يتركنا نستعمل تليفونه بطيب خاطر لأننا من أقدم زبائنه ولأن التليفون لا يعد المكالمات ..
وكان لا يغلق باب الأجزخانة إلا بعد أن يمر قطار الساعة التاسعة ليلا .. كما أنه اعتاد على أن يلبى نداء الفلاحين الذين يطرقون بابه فى الليل ..
ولكثرة مشاغل الرجل ولأنه يقوم بكل الأعمال بنفسه فانه كان قليل التريض .. وكان يتحرك فى دائرة قصيرة لا يتجاوز قطرها مائة ذراع ..
وفى عصر الجمعة كان يغلق الأجزخانة ويوسع الدائرة .. يمشى حتى المحطة وهناك يجلس ليسمر مع الناظر ومن يوجد بالمصادفة من الأهالى ..
وكنا نراه ونحن .. على القهوة .. عائدا وحده إلى بيته يمشى بتمهل وظله ينسحب فى ضوء القمر ..
كان مقوس الظهر سمينا .. ليس بالطويل .. منتفخ الخدين خافت الصوت .. ويبدو لمن يراه أنه يشكو من ربو دائم ولكنه فى الواقع لم يكن يشكو من أية علة .. وكنت أراه وهو يفرغ الصناديق الصغيرة والكبيرة بيده فى حيوية عجيبة .. ويصعد السلم الداخلى للأجزخانة فى سرعة ابن العشرين .. وكنت أفكر كلما دخلت الأجزخانة .. فى الدواء الذى لا ينفع .. فمنذ عشر سنوات وأنا أتعاطى الأدوية وأذهب إلى الأطباء دون جدوى .. وكنت أفكر فى متاعبى المالية .. وفى نكد زوجتى .. فأنا فى هذه الطاحونة منذ وجودها .. ولم يزد فى خلالها أجرى عن السبعة جنيهات .. وأنا أحمل لصاحبها الإيراد بيدى .. وهو فى الواقع لا يراها .. وقد لا يدخلها فى الشهر مرة .. وأنا أقوم بكل العمل .. وأتفصد عرقا .. وعرقى كله ذاهب إليه وحده ..
وكانت زوجتى تذكرنى كل يوم بأقرانى الذين شقوا طريقهم فى الحياة .. وتخلفت عنهم من السنة الأولى الثانوية لبلادتى .. ولفقرى .. لقد سحقنى الفقر .. وكانت تقول لى أن أولادنا سيموتون من الجوع .. ولم يكن لنا أولاد بعد .. وكانت تتخيل أشياء لا وجود لها .. وتسود وجه الحياة فى وجهى دواما ..
وكنت أرى كل ما حولى ثقيلا جامدا .. وكان الثقل يزداد كلما اشتد صراع المرض ..
وكانت القواديس تدور فى الطاحونة .. أحس بها فى كثير من الحالات تطحننى وحدى .. ولكننى كنت أحس ببهجة الحياة وانتصارها .. وأنا أرى الفلاحات يحملن المقاطف .. ويدلفن إلى الفناء الداخلى للوابور .. ليأخذن دورهن .. وهن مضرجات الوجوه .. نضرات باسمات .. وخلاخيلهن ترن فى سيقانهن الجميلة .. وكان زعيقهن الدائم يهز أوتار قلبى ..
وكان الدقيق الذى فوق بدلتى على الدوام كالبصمة .. هو علامة كفاحى كعامل .. ولكنى لم أكن أتقدم خطوة ..
وكلما دخلت البيت بدأ النكد .. كانت الحياة كئيبة فيه .. غرفة حقيرة بالإيجار الرخيص .. لتوافق دخلنا الضئيل .. كانت زوجتى تريدنى أن أتغير .. أن أفعل شيئا .. لنعيش كأخواتها المتزوجات من رجال أحسن منى بمراحل .. لماذا أرضى بالوضاعة ..؟ يجب أن أتحرك وأفعل شيئا وأسافر إلى القاهرة .. وفى الأرض منأى للكريم ..
وكان المقهى فى الليل هو ملاذى الوحيد حيث يوجد الناس البسطاء والطيبون .. ويدور الحديث فى كل الشئون .. وكنت أهرب من تبكيتها إلى هناك .. لأنسى الاحساس بالوضاعة .. وأود أن أستعيد السيطرة على مشاعرى ..
***
ولكن فى الصباح تبدأ الشمس المشرقة تغسل جراحى .. وتبدأ الحركة وأحس بجمال الحياة .. القطن يتفتح نواره فى هذا الوقت من السنة والذرة تنمو وتتطاول والعشب على سيف الترعة .. وأشجار النخيل تتسامق .. وأشجار السرو والجميز .. والكافور .. تناطح السحاب .. كان كل شىء يتمايل ويتراقص فى بهجة مع نسيم الصباح .. ويسقط نور الشمس من سطح الوابور .. نور ضئيل .. وتدور " الحجارة " وتتحرك النساء بالمقاطف .. والقفف .. فى ملابسهن السوداء .. والدقيق يبيض وجوههن .. يخرجن من المعدية .. وينزلن فى محطة السكة الحديد .. فى أفواج ..
وتبدأ أكوام النقود أمامى .. الفضة والنيكل والأوراق المالية من كل الأنواع ..
ويبدأ الزعاق .. فلا أحد يسمع من صوت الوابور .. وأحس بالطاحونة تدور .. لتطحننى .. تمزقنى اربا ..
تحرك .. أفعل شيئا .. لماذا ترضى بالوضاعة .. ستعيش طول عمرك كاتب طاحونة .. لو بقيت هنا .. كانت كلمات زوجتى تلسعنى ..
وكنت أحس فى ساقى شيئا كنغز السكين .. ثم ينهشنى فى لحمى كما ينهش الكلب المسعور ..
كان الحر شديدا .. والغبار يتطاير فى القرية من العربات والسيارات ومن أرجل الدواب التى تأتى إلى الطاحونة .. كان الضغط شديدا فى ذلك اليوم .. وكانت العربة التى تأتى بفناطيس البترول قد تأخرت .. فتحركت وأنا أجر ساقى نحو الأجزخانة لأتحدث فى التليفون ..
وكان الدكتور " مراد " .. فى الداخل .. فسمعنى وأنا أرفع السماعة .. فخرج إلىّ وتلقانى بالبشاشة وأخبرنى عن دواء جديد للروماتيزم وصله هذا الصباح .. ويقضى على علتى تماما .. وينتهى عذابى .. وأرانى العلبة وكان بها ست حقن ففرحت بها جدا مع أن ثمنها حوالى أربعة جنيهات وستحرمنى من قوتى ..
واتفقت معه على أن اسدد الثمن بالتقسيط وأن آخذ أول حقنة فى الليل .. وكان بين الحقنة والأخرى أسبوع كامل .. ولم أشعر حتى بعد الحقنة الثالثة بأى تحسن .. فقدرت أن الدواء لا نفع فيه كغيره .. ولكنى لاحظت وأنا أحقن بالحقنة الرابعة حركة من السيد مراد أثارت الريبة فى نفسى وجعلتنى أراقبه دون أن يلاحظ ذلك ..
إذ كان من عادته بعد أن يلتقط الحقنة من الماء المغلى .. يرفعها إلى أعلى ونظره إلى السقف ويولينى فى أثناء هذه الحركة ظهره .. ثم يواجهنى بها ممتلئة ويغرس الإبرة ..
وأشهد أنه كان من أبرع الناس فى هذا العمل .. يده خفيفة للغاية لا تحس بألم قط .. كما أنه كان يطهر مكان الإبرة بعناية فائقة ..
وفى أثناء هذه الحركة لمحت الحقنة بحروفها اللاتينية الزرقاء التى كان قد أخرجها أمامى من العلبة .. موضوعة فى جانب على الرف دون أن تمس .. وحقنة أخرى مكسور عنقها موضوعة بجانب الطشت .. وتملكنى غيظ مستعر .. ولكننى كتمته .. لقد باعنى هذه الحقنة بخمسة أضعاف ثمنها .. ويستردها منى على هذه الصورة الدنيئة .. ويبيعها لآخر .. ويقوم معه بنفس العمل ..
وأحسست بفوران الدم فى عروقى حقا ..
هناك أناس فى هذه الحياة مجردون من الاحساس .. لا يحسون بآلام الآخرين ..
وفى الشارع وأنا أتحرك زادنى الألم غيظا .. ولما بلغت البيت كنت فى حالة من التعاسة يرثى لها ..
ومع ذلك كله .. فأنه لما حل ميعاد الحقنة التالية ذهبت إليه .. وكان بالداخل وقد فتح باب الخزانة وأخذ يخرج منها بعض الأدوية النادرة وكان من عادته أن يضعها فيها ولاحظت أن الدرج العلوى للخزانة مفتوح وأنه مملوء برزم من أوراق البنكنوت الكبيرة ..
وقدرت أنه أعد هذه المبالغ الكبيرة لمحصول القطن الجديد الذى يشتريه من الفلاحين .. وأصابتنى الأوراق بلسعة .. وهزة .. أزاغت بصرى .. وأعطانى الحقنة وأنا لا أنظر حتى إلى وجهه .. بدأ رأسى يشتغل بشىء آخر ..
وفى الطريق إلى بيتى .. كنت أسير الهوينى .. وأنا أفكر فى أمر لم يخطر على بالى قط ولم يدر بخلدى أبدا .. ومضى شىء كالبرق واستحوذ علىّ وتملكنى تماما ووقعت تحت سلطانه ..
وأخذت أرسم الخطة بدقة وبعناية وبحذر شديد .. دون أن يتبين أى إنسان حركاتى .. أن الرجل العجوز الذى أشرف على السبعين مجنون تماما وهو يضع هذا المبلغ الكبير فى خزانة ربما سحبه من البنك اليوم أو ربما لا يضع نقوده فى البنك اطلاقا .. إنه على أية حال آمن .. ومن خمسين سنة آمن من كل شر ..
أنه ينام فى الطابق العلوى وحده وهذا المبلغ فى الطابق الذى تحته ..
لقد اعتصر حياتى بكل حيلة .. وهو يتضخم وينمو وأنا أتضاءل وأتمزق .. والطاحونة تطحننى والحياة بكل ثقلها فوق صدرى ..
كنت أرسم وأنا تحت القادوس .. والدقيق يتطاير والنسوة يزعقن كعادتهن .. والمقاطف تفرغ لتملأ .. كنت أرسم الخطة فى رأسى .. بالساعة الزمنية والهلال فى المحاق والقطار السريع يمرق فى المحطة كالسهم ويهز الأرض ويدكها .. وصفيره العالى يخنق صوت الطلقة ..
***
كان إبراهيم فراش الأجزخانة يروح بعد التاسعة وبعد أن يغلق السيد مراد الباب الخارجى .. وكانت زوجة الدكتور .. تجىء مرة كل شهر وتمكث يومين ثم تعود إلى القاهرة ..
وجاءت وراقبتها باهتمام فى هذه المرة حتى رأيتها صاعدة إلى المحطة مسافرة فى ليلة من ليالى الثلاثاء وأصابتنى رعشة ..
كنت أحمل المسدس دائما فى جيبى .. وأنا ذاهب إلى عزبة الحاج " عبد المجيد " بايراد الطاحونة .. مسدس أعطاه لى صاحب الوابور ليأمن على ايراده ومنذ سنين وهو فى جيبى وما استعملته قط .. وكنت كثيرا ما أنساه فى البيت أو فى درج الطاحونة ولكننى هذه المرة وضعته فى جيبى وجلست فى " القهوة " حتى الساعة الثامنة والنصف ألعب النرد ولأشغل أعصابى المتوترة ..
ثم مررت على المحطة .. ومنها اتخذت الطريق إلى بيتى لأكون طبيعيا كعادتى كل ليلة .. ولكننى لم أدخل البيت ورجعت أدور من شرق البلد بين المزارع .. متجها إلى الأجزخانة .. وكان الظلام يخيم .. والنخيل يطبق على البيوت وكنت أسمع أنفاس الحشائش وأنا أسير وحدى وأسمع نباح الكلاب .. وطلقات النار فى الحقول .. أن الطبيعة تساعدنى على انجاز المهمة فى جو مشحون بالنار ..
ونقرت على باب الأجزخانة التحتى .. فلم يرد أحد .. ولما عاودت الطرق فتح السيد مراد النافذة العلوية ورآنى وأشار لى بأن أدور إلى الباب الخلفى ..
فدرت وفتح لى الباب وعلى وجهه الاطمئنان .. وسألنى :
ـ مالك .. يا إسماعيل يا ابنى .. الروماتيزم .. بينقح عليك ..
ـ نعم وحاسس بدوخة كمان .. حموت ..
ـ أدخل .. بلاش تخريف مفيكش حاجة ..
وكان مطمئنا لوجودى تماما .. وكان العرق يسح من جبينى وأنا على حالة من الكآبة فتصور بأنى محموم فعلا .. وفتح الباب الصغير المفضى إلى الأجزخانة وهبطنا ..
وكنت أسمع صفير الريح فى أسلاك التليفون والتلغراف التى فى المحطة ونباح الكلاب .. وأعطانى الحقنة فى النور المسروق ..
وفى اللحظة التى تقدمنى فيها ليفتح لى باب الأجزخانة ليخرجنى إلى الشارع سمعت صفير القطار وهو يجلجل على القضبان ويهز الأرض .. فأطلقت النار ..
وسقط دون حراك ووجهه إلى الأرض .. وبحثت فى جيوبه حتى أخرجت مفتاح الخزانة وأنا ارتعش والعرق يسح .. وفتحت بابها .. وجذبت الأدراج .. وحدقت مبهوتا .. لم أجد فيها جنيها واحدا .. نقودا على الاطلاق .. وأخذت أبحث فى جنون فى كل مكان أخمن أنه وضع المبلغ فيه .. فلم أعثر على أى شىء اطلاقا ..
وتذكرت وأنا راكع على الأرض بجوار الجثة .. زوجته وهى مسافرة وفى يدها الحقيبة الصغيرة .. النقود فى هذه الحقيبة .. ونحن فى غفلة ..
رحت أحدق فى السقف .. واتسع فى أعماقى الاحساس بالحياة وبالرجل الذى مزقته برصاصتى فى حالة جنون .. لا أحد يمكن أن يقدم لى أية معونة .. لقد فات الأوان .. كيف يمكن أن ينتهى مصير رجل بيدى ..
لقد خلق الله إنسانا .. وقتلته بيدى .. كنت أريد رغد الحياة .. ولكننى خنقت نفسى بجريمتى ..
ومن كوة من السقف رأيت خيطا من السماء يتدلى .. خيطا رفيعا .. خيطا لا يرى .. ولكنه قرر مصيرى .. ومضت لحظات وربما ساعات لم أكن أدرى وسمعت طنينا فى أذنى وقرعا شديدا على الباب ولكننى لم أقو على الحركة ..




======================== 
نشرت القصة فى مجلة روز اليوسف بتاريخ 12/9/1966 وأعيد نشرها فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971
========================            


















السفينة الذهبية


     بيتنا فى بورسعيد ، وعندما وقع الاعتداء علينا فى سنة 1956 كنت بعيدا بآلاف الأميال عن الأهل والوطن .. كنت هناك فى مدينة " هونج كونج " ..
     وقرأت الخبر فى جريدة ( جنوب الصين ) وأنا أعض على النواجذ .. فأنا بعيد جدا عن جو المعركة ولا أستطيع أن أفعل شيئا من أجل وطنى .. وليس فى إمكانى أن أطلق رصاصة واحدة فى صدر الأعداء ..
     وقدر علىَّ أن أكون سائحا يتنزه ووطنى تشتعل فيه النار .. فما أشد العذاب ..
     ولكن الشرارة أصابتنى من بعيد فقد انقطع عنى المال ..
ولم يكن فى جيبى غير دولارات قليلة ، لا تعيشنى أكثر من عشرة أيام إذ كنت فى نهاية أكتوبر أنتظر المدد من بورسعيد لأرحل .. وهأنذا أصبحت بتصاريف القدر وحيدا شريدا فى هذه المدينة وما أعرف إنسانا فيها يمدنى بسنت واحد فكيف أعيش .. ؟؟
     وفكرت فى تغيير الفندق الذى أقيم فيه فى الحال .. وكان يقع فى جزيرة ( كولون ) والبحث عن أرخص فندق فى " هونج كونج " إذ أن الفنادق فيها أرخص ..
     وعبرت الخليج فعلا والساعة تتجاوز العاشرة صباحا .. وسرت فى شارع ( دى فو ) متمهلا متطلعا إلى اللافتات .. والناس فى حركة سريعة نشطة على الرصيف كأنهم سيلحقون آخر قطار ..
     وظللت أسير حتى اقتربت من سوق الخضار وأصبحت اللافتات كلها مكتوبة باللغة الصينية وعجزت عن فهم حروفها ..
     وكان الجو حارا وخانقا لشدة الرطوبة وأحسست بالعرق فى يدى على مقبض الحقيبة .. فوقفت ألتقط أنفاسى وأعرف مستقرى .. بعد أن تبينت أننى دخلت فى أزقة ملتوية أشبه بأزقة ( أبردين ) ..
     وكان أصحاب الدكاكين يتصورننى بائعا جوالا .. فأخذوا يسألوننى فى كل خطوة عما أحمل .. فكنت أجيبهم بأنى مجرد عابر سبيل ..
      وأخيرا وجدت لافتة مطموسة على باب ضيق .. ودخلت فى طرقة معتمة ملتوية .. وكلما تقدمت خطوة شعرت بالظلام يزداد كثافة .. مع أن الشمس كانت طالعة .. وأحسست بالخوف من شىء جعلنى أفتح عينى جيدا وأحس من فرط الفزع بضربات قلبى كأنها ضربات آلة قوية ..
     وصور لى الخيال المحلق الفنادق الرهيبة التى تحدث عنها " ادجار الن بو " فى قصصه وتصورت هذا واحدا منها .. ظل قائما عبر السنين فى هذا المكان .. وازداد رعبى فوقفت تماما لأستدير وأعود ..
      وهنا سمعت صوتا بالإنجليزية .. صوتا خافتا خيل إلىَّ أنه ينبعث من أعماق جب .. ولكنه كان على أى حال صوت إنسان وتبع الصوت خطوات بطيئة لينة فى اتجاهى ..
     وكان أول شىء رأيته فى وجه الشخص الذى استقبلنى فمه المفتوح عن سنتين ذهبيتين .. ثم ملامح صينية خالصة .. واستقبلنى الرجل ببشاشة .. وإن كانت عيناه ظلتا لمدة نصف دقيقة مفتوحة وتنظر إلىَّ بعمق وكأنها تنظر لتعرف فى لحظات خصائصى كمخلوق بشرى ..
      ومن حديثى القصير معه تبينت طيبة نفسه وكانت كل التصورات السابقة مجرد أوهام سبحت فى عقل مرعوب .. وفى دقائق أعاد إلىَّ السكينة المطلقة .. وأعطانى مفتاح غرفة رخيصة بسبعة دولارات هونج كونجى فى اليوم ولم يطلب دفع شىء مقدما ..
     وكانت الغرفة فى الطابق الخامس ولا يوجد مصعد فى البناية ولكنى رضيت بها ولم تكن نافذتها الخلفية الوحيدة تطل على شىء بهيج .. على أن الغرفة على صغرها كانت بالغة الحد فى النظافة ..
     وكان فى الجناح الذى أقيم فيه ست غرف على صف واحد .. ألفيت أبوابها كلها مغلقة ولا تدل على وجود سكان ..
     ولم يكن الفندق مستعدا للطعام فكنت آكل فى المطاعم الشعبية الرخيصة المزدحمة بالعمال والحمالين وسائقى عربات الركشا وما كنت أفهم حرفا واحدا من حديثهم ومنهم من كان يرافقنى فى مائدة واحدة ..
     ولكن وجوههم تبدو على اختلاف السحن متآلفة ويربطهم الرباط الذى يضم الفقراء والتعساء فى العالم ..
***
     وكنت متلهفا على أخبار بلادى ولكنى أعيش فى مستعمرة بريطانية فكيف تصل إلى الحقيقة .. ؟؟
     لم أكن أقرأ إلا جريدة ( جنوب الصين ) وكانت معظم برقياتها من رويتر ووكالة طوكيو للأنباء .. وعشت فى دوامة .. ولكننى ألفيت نفسى بعد عشرة أيام من الآلام المضنية أتحمل الموقف فى صلابة وأترك الأيام تجرى فى أعنتها ..
     ولم أكن أقدر الهوان قط .. وظلت قاهرة المعز بمساجدها وكنائسها وقبابها ، وقلاعها .. وحصونها .. شامخة وعالية وجبارة .. ولن يقهرها أحد ..
     ولم تهتز الصورة فى ذهنى أبدا .. بل ظلت متألقة وحية ..
     وكنت أتحرك باعتدال وأحاول الاقتصاد فى كل خطوة .. وأبتعد عن جو الملاهى والمواخير وعن النساء ..
     وخلال الساعات القاسية التى تحس فيها النفس بالموات .. كنت أذهب إلى ( كولون ) أو أتجول حول عربات الركشا التى تتقاتل على السائحين .. أو أذهب إلى الميناء وأقف على الرصيف أشاهد البواخر الضخمة وهى تفرغ حمولتها من الطرود الثقيلة أو تحمل بمثلها .. والعمال على الآلات الرافعة يبدون من بعيد كالعصافير ..
     والميناء تتحرك كخلية النحل حركة جبارة ..
     كان المنظر كله يشوقنى .. عرق العامل وزيت الآلات ودوى المحركات .. وصياح العمال وصفير البواخر .. كأن الدنيا لا تستريح ساعة ..
وكانت هذه التجولات تنسينى وحدتى ومتاعبى ..
***
     وفى كل صباح كنت أحصى الدولارات التى فى جيبى قبل أن أخرج من غرفتى ..
     وكان ذهنى يتفتق فى كل ساعة عن مخرج لحالتى ..
     ففكرت أن أشتغل فى أحد البنوك وما أكثرها فى المدينة .. أو فى متجر وأنا أجيد الإنجليزية والفرنسية فإذا ضاقت بى سبل العيش سأشتغل ملاحا فى سفينة حتى أصل إلى ميناء عربى ..
***
     وذات ليلة لمحت وأنا أدخل غرفتى رجلا طويلا يدير المفتاح فى الغرفة الملاصقة لى .. وكان أول ساكن أراه فى الجناح الذى أقيم فيه .. وأعطانى ظهره فلم أتبين ملامحه ..
***
     ومرت أيام قليلة وبدأت أشعر بالفراغ والضيق .. ولم تستطع مباهج المدينة أن تمسح لوعتى .. وكتبت رسالة لأهلى لأعرف أحوالهم ولكننى لم أتلق ردا ، وأصبحت أحتبس فى غرفتى بعد أن كنت لا أطيق البقاء فيها ساعة ..
     وبدأ الخوف من الجوع يعاودنى بشكل يثير الرعب .. فقد طرقت كل أبواب العمل فلم أوفق إلى شىء قط ، سدت الأبواب فى وجهى .. وغدت كل الوسائل التى فكرت فيها من قبل كمورد للرزق مجرد أحلام ذهبت مع الريح ..
***
     وأصبح المال القليل الذى تبقى معى هو بمثابة حياة لى .. ولهذا حرصت على أن أحمله ولا أتركه فى غرفتى لأنى كنت أعرف من سفرى الطويل لصوص الفنادق ..
     وقد جعلنى الاقتصاد فى النفقات أتعشى فى غرفتى حاملا معى فى كل ليلة أرخص الأطعمة فى السوق .. وبعد العشاء كنت أخرج إلى بهو الفندق لأشرب القهوة وأستمع إلى الموسيقى الصينية التى تذاع فى الراديو ..
     وفى كل الحالات كنت أجد نفرا من النزلاء جالسين حول موائد متباعدة يشربون الخمر .. ولكنى لم أكن أختلط بأحد منهم .. وشاهدت جارى الذى رأيته من قبل وهو يدخل غرفته .. يجلس هناك فى الركن ويشرب وحده ..
     وبدا لى من جلسته ، فارع الطول ، نحيفا وعروقه بارزة من عنقه وكانت صفحة وجهه إلى ناحيتى فبدت التجاعيد وخطوط السن .. وبشرته البيضاء الناعمة التى لوحتها الشمس كثيرا ..
     وكانت عيناه ضيقتين وساكنتين ويظلهما هدب غزير أشهب كشعره كله ..
     ومن ملامحه قدرت أنه أوروبى أو أمريكى لف الدنيا ثم حط رحاله فى هذه المدينة ..
     وكان قليل الكلام مع الفتاة التى تقدم له الخمر .. وبدا من سكون جوارحه أنه شرب فى هذه الليلة كثيرا ..
     وظل يشرب حتى انصرف النزلاء إلى حجراتهم .. وبقى وحده ..
     وخرجت لأشترى علبة سجائر ولما عدت كان يصعد السلم أمامى إلى غرفته .. وظهر من حركات رجليه أنه لا يكاد يتماسك وكان يسقط فعلا فسندته بذراعى وظللت معه حتى أدخلته غرفته وشكرنى بحرارة على الباب ..
     وأصبحنا نتلاقى بعد ذلك كثيرا .. فى الطريق .. وفى الميناء .. وعرف اسمى .. ولما سألنى عن جنسيتى قلت له إننى " تركى " .. وخشيت أن أقول له أننى مصرى لأننى حسبته إنجليزيا ونحن فى حالة حرب ..
     ثم تبين لى أن الرجل لا يهمه من أكون وأنه فرغ من الدنيا ويعيش على هامش الحياة جواب آفاق ..
     فقد رأى الهند .. والصين .. واليابان .. وأخيرا حط رحاله فى هونج كونج .. ولا يدرى إلى متى سيبقى ..
***
     وفى مساء اليوم التالى بدا منشرحا مرحا وأخذ يفيض بمرحه على كل من يقابله فى البهو ..
      وسألنى :
     ـ هل أنت تاجر .. ؟
     ـ أجل .. وجئت لأشترى صفقة من الحرير الصينى ..
     ـ وهل تشترى الماس .. ؟
     ـ إذا كان نادرا ..
     ـ لدى قطعة نادرة من الماس لا تقدر بثمن .. هل تحب أن تراها .. ؟
     وضحكت وأنا أحدق فى وجه الرجل الكهل وقد جرى فى عروقه دم الشباب وهو يتحدث عن الماس ..
     ويسألنى متعجبا :
     ـ لماذا تضحك .. ؟
     ـ لأنك وقعت على أوعر أرض رن عليها حافر ..
     ـ لا أفهم شيئا ..
     ـ أعنى أنك وقعت على أفلس رجل فى الوجود ..
     وأخذت أروى له قصتى .. وكيف جئت إلى هونج كونج .. وفوجئت بالحرب فى بلادى وتقطعت بى الأسباب ..
     ـ لا تبتئس فأنت شاب تتحدث بأكثر من لغة وتستطيع أن تجد عملا .. فلا تفكر فى الموت جوعا ..
ولكنى كدت أموت من الجوع فعلا .. بعد أن سدت فى وجهى كل وجوه العمل ، وشعرت بالقنوط ، وكادت تقهرنى الحياة ..
     ودخلت غرفتى مرتميا على الفراش وأنا أتصبب عرقا .. وفكرت فى الموت بدل الهوان وتمنيت المرض بالحمى لأموت ميتة طبيعية .. بدلا من الانتحار ..
     ولكننى لم أمرض قط فى هذه الفترة المظلمة من حياتى رغم أننى كنت آكل أردأ الأطعمة ..
     وظللت أفكر .. وأحدق فى سقف الغرفة .. وأتصور النزلاء الذين كانوا قبلى ومن سيأتى منهم بعدى .. أنهم سينامون على نفس السرير .. ومنهم الشريد والمحتال والطيب والشرير .. العبقرى الفذ والرجل الذى لا وزن له فى الحياة ولا قيمة ، سيرقدون على هذا السرير .. نفس السرير الذى يتغير ويستقبل فى كل يوم أو شهر نزيلا جديدا ..
     وأحسست بالعرق غزيرا والحرارة خانقة .. فنهضت لآخذ حماما .. وخرجت إلى الطرقة المؤدية إلى دورة المياه ..
     ولمحت وأنا راجع فى الغرفة الملاصقة لغرفة جارى من الناحية الشرقية .. وفى ضوئها الشاحب شابة صينية تجلس مسترخية على كنبة .. وقد جعلتها الرطوبة والحرارة لا تحس بوجودى ..
     ولم أعرها اهتماما .. فما أكثر الفتيات فى هونج كونج ..
     ثم أصبحت أراها كلما مررت فى الطرقة متخذة نفس الوضع وبابها مفتوح ..
     ولعلها متضايقة من الجو القابض .. والرطوبة فى هذا الفصل من السنة .. لأن غرفتها صغيرة ولها نافذة خلفية تطل على مصنع للجلود .. وفوقه مكاتب الإدارة فأغلقت الفتاة النافذة حتى لا تشاهدهم ولا يشاهدونها فى مباذلها ..
     وكانت لا تبرح غرفتها إلا قليلا .. وتقوم هى بتنظيفها بنفسها وترتيب فراشها ..
     وشاهدتها ذات مرة راكعة تحت السرير وممسكة بالمجرفة .. ولما وقع بصرها علىّ احمر وجهها وغدا فى لون الأرجوان ..
***
     وحملت بذلة جديدة وقمصانا ومنبها موسيقيا وساعة وكل ما قررت الاستغناء عنه من متاعى لأبيعه لتاجر صينى .. فى شارع ( تشين رود ) وأعطانى ثلاثمائة دولار هونج كونجى وسررت جدا وكان هذا المبلغ عندى يساوى ثلاثمائة جنيه استرلينى ووضعت المبلغ فى جيبى وركبت الباخرة إلى كولون لأشرب الشاى فى مشرب هادئ جميل كنت أتردد عليه عندما كنت ساكنا هناك ..
     ولما اتخذت مقعدى رأيت الفتاة الصينية جارتى فى الفندق وكانت جالسة على مقعد فى الدرجة الثانية مثلى ولما بصرت بى ابتسمت وأحنت رأسها بحركة خفيفة ولا أدرى كيف عرفتنى وهى محبوسة فى غرفتها المظلمة دوما ..
***
     وقضيت النهار كله فى كولون ، ولما عدت إلى الفندق فى المساء وجدت جارى ( البرت ) .. جالسا فى البهو .. وبجانبه القبعة التيلية التى يرتديها فى النهار ..
     وأخذ يحدثنى عن المدن التى شاهدها منذ عشرات السنين .. وكأنه رآها بالأمس ، كان يحب الأسفار حتى غدت متعته الوحيدة ..
      وسألنى فجأة ..
     ـ هل تحب أن أريك الماسة .. ؟؟
     وصعدنا إلى غرفته ..
     وتناول محفظة جلدية أنيقة من الدولاب .. وأرانى ماسة مضلعة زرقاء .. أكبر من أن توضع فى خاتم .. ويمكن أن يزين بها صدر حسناء .. ليست ككل الحسان .. أو توضع على قمة الفصوص فى تاج امرأة .. امرأة ملكة على النساء جميعا ..
     وأدارها فى يده .. فغابت الزرقة .. وأصبحت تشع كل ألوان قوس قزح مجتمعة .. وكلما حركها .. ازدادت فتنة ..
وفى كل وجه من وجوهها وهى تتحرك رأيت صور البشر .. بخيرهم وشرهم وآمالهم وأحلامهم ويأسهم وقنوطهم ..
     وسألنى وهى لا تزال فى يده وعيناه تحدقان فيها :
     ـ كم تقدر .. لهذه الماسة .. ؟
     ـ لا أدرى .. فلست من تجار الماس وما لمسته يدى قط ..
     ـ خمن ..
     ـ مائة جنيه استرلينى ..
     فضحك وقال :
     ـ أنها تساوى أكثر من خمسة آلاف جنيه استرلينى ..
     ـ ولماذا لا تضعها فى خزانة بنك .. ؟
     ـ وماذا أفعل .. إذا غيروها بماسة زائفة .. أنت لا تعرف شيئا عن الماس ..
     ـ ولماذا ترغب فى بيعها .. والاحتفاظ بها أحسن ..؟
     ـ هذا صحيح .. ولكنى وحيد .. فقد فقدت أسرتى وتجارتى فى الحرب العالمية الثانية ..
     وكانت الصدمة قاسية .. ولكن الأيام كفيلة بمسح الأحزان وانتهت الحرب ولم أفكر فى الزواج ..
     وأشعل سيجارة وصمت .. كان يسترجع الذكريات .. ثم أضاف وقد تغيرت نبرات صوته ..
     ـ ولما بلغت الشيخوخة صفيت أعمالى وأخذت أسيح فى العالم أجمع .. وقد رأيته كله .. حتى بلدك مصر رأيتها .. ومن طوكيو .. اشتريت هذه الماسة .. ولما حططت رحالى فى هونج كونج .. ورأيتها بهذا الجمال .. استقر قرارى على أن أبقى هنا ما شاءت لى الحياة ..
     ـ لقد أحسنت الاختيار .. إنها مدينة جميلة حقا ..
     قال فى صوت الحالم ..
     ـ وفى هذه المدينة أخذت أفكر .. ما حاجتى إلى الماسة فى هذه السن .. ؟
     سأستبدل بها شيئا جميلا أخذ على مشاعرى واستغرق كل تفكيرى .. سأبيع الماسة وأشترى بثمنها سفينة ذهبية ..
     ـ سفينة ذهبية ..؟
     ـ أجل ، هل ذهبت إلى ( أبردين ) وأكلت السمك فى السفينة العائمة .. ؟ ورأيت هؤلاء الناس الفقراء البسطاء الذين يعيشون ويموتون فى الماء دون أن يشعر بهم إنسان .. ؟
     ـ نعم ذهبت .. وشاهدتهم ..
     ـ سأعيش فى السفينة الذهبية مثلهم أعيش وأموت فى الماء ..
     ـ وهل عثرت على السفينة ..؟
     ـ أجل .. إنها فى الخليج .. وسأشتريها بعد أيام قليلة وأحقق أحلامى ..
     وكان قد طلب زجاجة من البراندى .. وابتدأ يشرب .. وقدم لى كأسا فاعتذرت .. وحييته وصعدت إلى غرفتى ..
     ويظل البرت فى مكانه إلى ساعة نومه .. كان نادر الخروج فى الليل ..  ومن الساعة التاسعة تراه فى البهو يشرب الخمر .. ويتحدث مع من يألفه من السيدات النزيلات فى الفندق .. أو اللواتى يأتين من الخارج فى ساعات الليل ..
     ومع أنه جارى ولكننى لم أشاهد قط امرأة فى غرفته ..
     ومرت الأيام .. وهدأت نفسى القلقة بعد بيع حاجاتى ووجود دولارات معى تكفينى عدة أيام ..
     وسررت جدا لما رأيت فى جريدة ( جنوب الصين ) خبر وقف القتال فى بلادى وأن الأعداء أخذوا يرحلون عن بور سعيد .. وهزتنى الفرحة فكتبت رسالتين لوالدى أعرفه بحالى وأبدى له رغبتى فى العودة ..
     ثم أخذت أتجول فى المدينة ..
***
     واستيقظت فى صباح يوم من أيام ديسمبر على زعيق جارى ( البرت ) وجريت نحوه .. وأنا أتصور أن النار اشتعلت فى ملابسه ..
     ووجدته جالسا فى غرفته يرتعش ووجهه فى لون الرماد .. وقد برزت تجاعيده .. وأصبحت عيناه فى لون الجمر ..
     وكان متهالكا على الكرسى بالبيجامة .. وقميصه أنشق عن صدره الهزيل .. ورجلاه متدليتان كالمشلولتين ..
     ولما دخلت لم يتحرك وظل فى مقعده ورفع وجهه برهة ورأيت الدموع فى عينيه وأطرق ليخفى دمعة ..
     وعرفنى أن الماسة سرقت .. ولا يعرف السارق ..
     فالغرفة يدخلها معظم الخدم فى الفندق ..
     ودارت عيناى فى الغرفة .. تتفحص الدولاب والكنبة .. والطاولة .. والسرير .. ثم جلست بجانبه وأخذت أحادثه وأخفف عنه وقع السرقة بكل فنون الأحاديث ..
      وكان الكرسى الذى أجلس عليه قريبا من السرير فلمحت على فراشه شعرتين طويلتين .. من شعر النساء .. وآثار جسم فى المكان المجاور له على المرتبة ..
     ولم أشأ أن أحرجه وأسأله عن المرأة التى قضت الليلة معه ..
     وقلت له :
     ـ بلغ البوليس ..
     ـ وهل هذا يجدى .. والخدم فى الفندق يتغيرون كثيرا .. وهناك النساء اللواتى يأتين من الخارج .. ولا يعرف الفندق عنهن شيئا .. وأكثر من واحدة منهن قضت الليل معى ..
     وكان اعترافه مذهلا .. فلم ألاحظ عليه هذا .. وحسبته يكتفى بالحديث مع النساء ..
     ولما علم كاتب الفندق بخبر السرقة جاء إليه وتجمع الخدم على الباب ..
     وكانوا جميعا يطلبون إبلاغ البوليس ..
     ولكن البرت رفض ..
***
     وفى الليل لم يخرج إلى البهو كعادته .. وزرته فى غرفته .. ووجدته على حاله من الألم .. فأخرجت مائة دولار من جيبى وقدمتها له ..
     فرفضها بشدة وسألنى :
     ـ من أين هذا المال وأنت مفلس ..
     وحدثته عن الأشياء التى بعتها ..
     فظهر على وجهه الألم وقال :
     ـ إن ما حدث قد حدث .. ولكن أرجو ألا تبيع شيئا آخر .. وفيما يتعلق بى فأنا معى من المال ما يكفينى والماسة كانت بالنسبة لى حلما .. ولكنه حلم ليل وذهب مع تباشير الصباح ..
     وتركته .. بعد أن هدأت حاله قليلا ..
***
     ومرت الأيام .. وسمعت نقرا خفيفا على باب غرفتى وأنا أتهيأ للنوم فنهضت لأفتح الباب ووجدت جارتى .. واقفة فى الضوء الشاحب .. مرتدية روبا حريريا مشجرا ثنته عند صدرها وتركت شعرها الأسود الطويل ينسدل وراء ظهرها متموجا شديد البريق ..
     وقالت وكأنها ترانى لأول مرة :
     ـ هل يمكن أن تعطينى جريدة ( جنوب الصين ) لحظات .. لقد رأيتها معك فى الصباح ..
     ـ تفضلى ..
     وأعطيتها الجريدة وانسابت وأنا لا أسمع صوت خفها ..
     وعادت بعد نصف ساعة لترد لى الجريدة .. وقالت بصوت ناعم وإنجليزية سليمة :
     ـ إن غرفتك جميلة وواسعة .. وليست كغرفتى الصغيرة .. الخانقة ..
     ـ ولماذا لا تأخذين مثلها .. وهناك غرف خالية كثيرة ..
     ـ ومن أين أدفع وأنا فقيرة .. إن غرفتى بخمسة دولارات .. وأنت تدفع ضعف ذلك ..
     ـ سأدفع سبعة فقط ..
     ـ لقد أكرمك ( منج ) لأن إقامتك طويلة ويعرف أنك مصرى .. أعطنى سيجارة ..
     وأخذت تدخن .. وهى واقفة .. وبدت متوسطة الطول رشيقة القامة .. وبشرتها الناعمة تتأذى حتى من لمس الحرير الذى على جسمها ..
     وقالت بعد صمت :
     ـ هل رأيت جارنا النمسوى العجوز ( البرت ) .. إنه مسكين حقا .. كيف ضاعت منه الماسة .. هل يتصور شخص فى الدنيا أن عنده ماسة .. لعله .. يكذب ليستدر عطف النزلاء .. لقد رأيتك وأنت تقدم له الدولارات .. إنه محتال وأنا  أعرف حيل هؤلاء العجائز ..
     ـ لا تظنى بالرجل الظنون .. فهو صادق .. وقد رأيت الماسة بعينى ..
     ـ ونادرة كما يقول ..
     ـ أجل .. من الماس النادر ..
     وعادت تتطلع إلى الغرفة .. ثم جلست وكانت السيجارة لا تزال مشتعلة فى يدها ..
     ـ إن غرفتى خانقة .. هل تسمح لى بأن أقضى الليل معك ..
     ـ آسف .. أنا ..
     ـ ماذا .. ؟!
     ـ مفلس ..
     ـ مفلس .. وكيف قدمت الدولارات للنمسوى العجوز .. إذن ..
     ـ هذا شىء آخر .. وما زلت مفلسا ..
     وظلت تبتسم ويدها تعبث بطرف ثوبها .. ثم خرجت ..
***
     وفى ليلة من ليالى الخميس ألفيت ( البرت ) فى البهو .. وكان متهلل الوجه يضاحك كل من يراه .. بنشاط ومرح وكأنه عاد إلى شبابه .. وأخبرنى أنه وجد الماسة أمس بجانب سريره لما دخل غرفته لينام ..  
     وابتهجت لهذا جدا ..
     وفى يوم السبت الذى بعده دخلت مشربا للشاى فى شارع ( كوين رود ) وكانت الساعة لا تتجاوز الثامنة مساء فرأيت وأنا أكتب رسالة لوالدى .. جارتى فى الفندق جالسة إلى مائدة وحدها ولم أشاهدها وأنا داخل .. لأنها كانت منزوية فى ركن وحييتها ..
      وجلست معها بعد أن فرغت من الرسالة .. وبعد حديث طويل قلت لها :
     ـ هل ترافقينى غدا فى رحلة بالقطار .. ؟ إلى لو و ..
     وسألت بخبث ..
     ـ وهل معك نقود .. ؟
     ـ أصبح معى ..
     ـ كيف .. هل سرقت البرت العجوز .. ؟
     ـ قد وجدت عملا ..
     ـ حقا .. أين ..؟
     ـ فى مكتب " وانج لى " للسياحة بشارع هليوود رود ذهب معى البرت إلى صاحب المكتب صباح الجمعة فشغلنى على التو ..
     ـ وسيدفع لك أجرا مجزيا .. ؟
     ـ بالطبع أجرا عاليا ولكن هذا لا يهم .. المهم أن أرافق السائحات ..
     وظهر على وجهها الغيظ لحظات ولكنها كتمته ببراعة وابتسمت ..
     ومرت الفتاة العاملة فى المشرب بجانبنا ترفع أقداح الشاى وكان شعرها أسود متموجا جميلا .. ولاحظت مرافقتى أننى أطيل النظر إليه ..
     فقالت :
     ـ شعرها جميل .. ؟
     ـ إلى حد .. ولكننى وجدت شعرتين سوداوين أكثر جمالا على فراش ( البرت ) العجوز فى الصباح الذى اكتشف فيه ضياع الماسة فى نعومة شعرك وجماله وطوله ..
     وحدقت فى وجهى باستغراب .. ثم انطلقت تضحك حتى اهتز صدرها ..
     وقالت برقة :
     ـ صحيح .. هل حدث هذا .. ؟
     ـ أجل .. والشعرتان معى ..
     ـ ولماذا تحتفظ بهما ..؟
     ـ لأنهما تذكار جميل ..
     ـ وهل عرفت صاحبتهما ..؟
     ـ أجل .. فلا يوجد شعر فى هذا الجمال .. وهذا الطول .. غير شعر نزيلة واحدة فى الفندق ..
     وصمتنا مدة طويلة لا ننطق بحرف .. وساعد على الصمت هدوء المشرب .. والستائر الحريرية المسدلة فى كل الزوايا .. والإضاءة الخفيفة والموسيقى الصينية .. الناعمة ..
     وأخيرا حركت شفتيها وهى لا تنظر ناحيتى كأنها تحدث شخصا آخر ..
      وقالت :
     ـ تحدث أشياء فى نفس الإنسان لا يستطيع تفسيرها .. ولا تعليل جزئياتها الصغيرة ، وتراه يفعل الشىء وضده فى وقت واحد .. الخير .. والشر .. معا ويتغير ويغير نهجه فى الحياة لأبسط الأشياء التى تحدث .. أشياء بسيطة ولكنها تحركه وتجعله ينتفض ..
     وعندما رأيتك تقدم النقود لالبرت العجوز وأنت على حالك من الإفلاس .. وتحتاج لكل سنت منها أصابتنى رعشة .. ولم أستطع التخلص من الأفكار التى ألحت على وظلت تلح وأخيرا فعلتها .. ولم أندم .. أنا سعيدة جدا ومن الفرحة أحس بخفقان قلبى ..
     ـ إنك نبيلة .. وهذا كرم كبير منك .. فما كان أحد يعرف اليد التى امتدت وأخذت ولقد طويت الصفحة .. وكاد ( ألبرت ) ينسى ..
     وأشعلت سيجارة أخرى وسبح الدخان الأزرق فى خيوط وتبعته ببصرى وسألتنى وهى تتكئ بكوعها على المائدة :
     ـ وإذا وصلتك النقود من مصر .. سترحل وتترك الوظيفة .. ؟
     ـ طبعا .. مع أن الوظيفة ممتعة للغاية ..
     ـ ترحل .. وأنا لم ألمس حتى يدك أو أعرف اسمك ..؟
     ـ اسمى جعفر .!
     ـ وأنت بماذا أسموك .. بكل ما فيك من جمال .. ؟
     ـ " يه ونج " .. وستضع " يه ونج " شعرها كله على وسادتك الليلة ..
     وبارحنا المشرب وأخذنا نسير متمهلين فى اتجاه الميناء .. وقد بدت المدينة راقدة فى الليل على التلال وساكنة وصدرها يلمع بحبات الزمرد ..
     ولا أحد يعرف ما يجرى فى جوفها من فعل البشر ..
================================   
نشرت  القصة فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971
===============================

الصيـــــاد

     أبحر الزورق فى الخليج .. ومنذ اندلعت نيران الحرب "وشعبان" لايبـعد فى الليـل ..
      كان يصطاد قريبـا من الساحل متحاشيا الموج ما أمكن ، وكانت الظلمة شـديدة ولكن الريح كانت رخـاء .. فأرسل الزورق على سننه ..
     وأخذ يرمى الشبكة وهو جالس فى المؤخـرة .. وكان يمنى النفس بصيد كثيرقبل أن ينتصف الليل .. فلم يكن منذ نشب القتـال يتأخر عن زوجته وابنائه الصـغار . كانت صورهم لا تبعد عن ذهنه أبدا وهو فى قلب البحر .. انهم امتداد له وحياة ..
     خلف مدينة السويس وراءه غارقة فى الظلام ولا يبدو من بيوتها البيضاء ومآذنها وأعمدة مصابيحها .. إلا ظلال فى العتمة الشاحبة .
     وبدا شاطئا القناة من بعيد فى سواد الأبنوس .. وغابت الأشجار التى على الشط الغربى من بور توفيق فى الظلمة وانطمست معالمها ..
     وأخذ شعبان يحرك الزورق بلين .. ولجة الماء دكناء ساكنة وغيـاهب الليـل تتسـاقط فى كل ساعة تنقضى وتصبح كريش الغراب ..
     وفجأة أحس أن الشبكة أمسكت بشىء .. فقد اهتزت فى يده بعنف .. وخشى أن يمزق الصيد الشبكة لضـخامته وقوته .. فأرخى الحبـل حيث جرته السمكة واتجه إلى الشرق .. تسـحب فى لين وراء السمكة الكبيرة .. التى أحس بها تنتفض فى عنـف وخشى أن تكون من صنف القرش فيذهب كل تعبه هباء وتصبح الليلة لا نفع منها ولا جدوى فيها .. تصبح ليلة من ليالى النحس ..
    واشتد الجذب فأرخى الحبل .. أرخى وهو يحس برجفان قلبه وظـل يطامن حتى وجـد نفسه يقترب من شط القناة الشرقى ويسير بحذائه فى هوادة ولين ، حابسا ما أمكن صوت المجاديف ..
     كان يعرف أن المعركة فى هذا الساحل وأن القتال يدور على اشده هناك .. وأخـذ يسمع بوضوح صوت القنـابل التى تلقيها الطائرات وصوت المدافع ..
     كان شعبان يعيش فى قلب المعركة بكل حسه ووجدانه .. لم تكن بعيدة عنه أبدا فقد بدأت يوم الإثنين .. واليوم هو الأربعاء ثالث أيام المعركة ، والقتال يدور فى عنف وكان يتبعها بحواسه وإذا سمع نبأ سيئا ثار وعض على نواجذه ولم تمنعه الحرب عن السعى وراء معاشه ولكنه كان يخرج فى الليل مسلحا ببندقية سريعة الطلقات يتقى بها الشر أينما كان ..
     وفى اللحظة التى أحس فيها بغريزته كصياد أن الشبكة صادت شيئا ضخما لم يحدث له فى حياته .. انتابته نشوة عارمة .. وكان لايود أن يفلت منه هذا الصيد أبدا .. فلما جذبته شرقا طاوعها واتجه بالزورق إلى الشاطىء الشرقى .. كان لايريد أن يضيع منه الصيد بعد هذه المشقة ..
     وأخذ يسحب الشبكة بيد الصياد الماهر .. وقد خيم السكون فجأة وخيل إليه أن الحرب قد توقفت .
     خيم سكون ذهل له .. وخيل إليه فى قلب الظلام أن المدينة ستتلألأ فى هذه الليلة كما كانت قبل الأيام الثلاثة .. ستتلألأ كما كانت من قبل وتزهو وترقص قناديلها كلما مايلتها الريح ..
***
      وعندما اقتربت الشبكة من القارب ورأى بعينيه السمكة الكبيرة التى اصطادها شعر بفرحة .. إنها ليلة من ليالى الخير .
     وأخذ وهو نشوان يخـرج السمكة من الشبكة ويضـعها فى بطن القارب .. إنها ضخمة بشكل مهول ، ومن أكبر الأسماك التى اصطادها فى حياته كصياد .
***
    وفجأة سمع أزيزا عنيفا وحلقت طائرة فوق رأسه .. فاضطرب أولا ولكنه تماسك وحدق فى الظلام فبصر بأجسام طويلة تسقط من الطائرة فى مجرى القناة ..
     ودوت المدافع المضادة وتكهرب الجو .. واستمر القصف مدة .. ثم سكن ..
     وظل الصياد يتحرك فى المياه الهادئة وهو قريب من الساحل ، وسمع فجأة اشتباكا على الأرض قريبا منه وطلقات رصاص .
      فلما اقترب بالقارب من الموقع والظلام يخيم على البحر واليـابسة .. بصر بجندى مصرى من جنود السواحل مشتبك مع دورية اسرائيلية فى قتال رهيب .. ومع أنهم أكثر منه عددا ولكنه ظل صامدا وقتل منهم واحدا وجرح آخر .. وكان منبطحا وراء كثيب من الرمل .. والرصاص يتطاير حوله ..
     ودفع الصياد الزورق إلى الشاطىء ونزل منه سريعا واقترب من الموقع زاحفا ببندقيته حتى كمن بجانب الجندى المصرى وأخذ يشد أزره على القتال والصمود وكان الجندى قد جرح جرحا بليغا فى هذه اللحظة ولكنه ظل مع ذلك يطلق النار ثم سكتت بندقيته ..
     وظل الصياد يقاتل وحده حتى سكتت كل بنادق العدو .. وخيم السكون وظل فى مكمنه قابعا بجوار رفيقه مدة ثم رأى أن يغير المكان .. فنهض وتلفت حواليه ليتخير الموقع الذى سينتقل إليه .. وهنا سمع انفجارا رهيبا فى البحر وطار زورقه وتمزقت شباكه ولم يحزن كثيرا ..    
    وتقدم حتى اقترب من جندى السواحل الجريح .. كان لايزال ينـزف دمه .. وغسل جراحه وحمله على ظهره وسار به فى الليل محاذرا متوقعـا فى كل خطوة أن يقـع فى أيدى الأعـداء الذين انتشروا فى الصحراء ، وكان الرصاص يتطاير حواليه وخلفه ..
    سكن الليل بعد القذف واللهب المنبعث من الأرض والسماء .. سكن الليل .. سكون الموت .. وكلما سار الصياد بالجنـدى خطوات طلب منه هذا أن يضعه على الأرض ويمضى لسبيله وإلا سيقع الإثنان فى أيدى الاعداء .. ولكن الصياد كان يرفض بإصرار ويتصبب عرقا .. وهو يسير باذلا من الجهد فوق كل طاقات البشر ..
     كان ينظر إلى الشاطىء الغربى والليل قارب على منتصفه والظلام يخيم ولا مغيث ..
     قد تمر عليهما دوريات الأعداء وتمزقهما بالرصاص ..
     وظل يسير وهو يحمل الجريح والريح تصفر فى الصحراء ..
     كان شعبان يحس بثقل الجسم على عاتقه وبتعبه الشديد وانقطاع انفاسه ولكنه كان لايريد أن يضع الجريح على الأرض أو أن يستريح خشـــية أن يعـطل ذلك إسـعافه وإنقــاذ حياته .. ولأول مرة يعرف قيمـة النفس البشرية والحرص على بقائها وبذل كل سبيل لإحيائها ..
     لكم خـرج فى الليل يصطاد الحيتان ، ولكم قاسى فى الليالى الحالكة ، ولكم خاطر بحياته ليأتى بطعام أولاده .. ولكم شعر بالفرحة بعد الجهد والعرق ..
     ولكنه لم يحس بمثل السعادة التى يحس بها الآن .. وهو يحمل جنديا جريحا .. قاتل ببسالة ..
     ولم يكن وهو يحمله يفكر فى تعبه قدر تفكيره فى انقاذ روحه ..
     ولأول مرة فى حياته يحس بأنه وحدة واحدة فى عالم كبير .. وأنه جزء من كل .. وأن التعاون عضد الحياة ..
***
     وطال السير فى الليل والظلام .. وبلغ المرحلة التى أحس بعدها الصياد بأنه لا يستطيع أن يتقدم خطوة أخرى .. وأنه آن له أن يلقى بالحمل على الرمال .. ويتخفف هو من ملابسه .. وقد يجد شيئا يستعين به على أن يعبر القناة إلى بور توفيق ، أما أن يربط حياته بهذا المخلوق الميت .. فذلك فناء وسيموتان معـا .. أى سـلسـلة ربطتــه به ، لابد من فكها ..
     وتمهل جدا .. وفى ظل كومة من الرمال وسد الجريح بعناية كما يوسد الموتى تماما ، وجعل وجهه للقبلة وقرأ الفاتحة فى صوت خافت .. ثم القى عليه نظرة أخيرة وانطلق فى الرمال ..
     وكان الظلام يلف كل شىء فى شملته .. والريح تسفى الرمال ومياه قناة السويس ساكنة على شماله .. وغياهب الظلام تزداد كثافة ..
     وسمع طلقات النار مرة أخرى ..
     ولكنه كان مطمئنا بأنه سينجو وسيعود إلى بيته كما خرج منه .. ولكن كيف يعود .. ويترك رجلا من وطنه ينزف دما .. ولا تزال فيه الروح .. كيف يتركه هناك وحده .. أحس بأن قدميه تغوصان فى الرمال ومسح عرقه ..
     ورجع الى الجريح فحمله مرة أخرى وسار به قرب الشاطىء ..
***
     وفى وضح الفجر .. رآه صياد آخر عن بعد ولوح له شعبان بيده فحول الصياد الزورق إليهما والتقطهما .. وظل شعبان يحكى ما جرى له للصياد الآخر ويحكى ..









                                  =================================
نشرت القصة فى كتاب " السفينة الذهبية "  لمحمود البدوى 1971
====================================  










وقفه فى جنزا

     لم ألعب القمار مرة واحدة فى حياتى .. ولكننى وقفت وقفة طويلة أمام آلة جهنمية فى حى شمباسى بمدينة طوكيو أدير الأكرة وأسقط الينات تلو الينات فى الخزان .. دون أن أربح ينا واحدا ..
     وكان كل من وقف حولى فى صالة القمار هذه يلعب وقد استهوته اللعبة إلى حد الجنون ..
     ومنهم من كان يربح دوما ومنهم من يخسر ويربح .. وكنت الخاسر الوحيد فى الحلبة ..
     وأخذت ونحن فى شهر ديسمبر أتصبب عرقا من فرط الغيظ .. وأدير الآلة بعصبية ظاهرة للعيان .. وعلى مدى الصفوف الواقفة أمام الآلات والمستغرقة بكليتها فى اللعبة لم يحس بحالتى التعيسة إنسان ..
     وكانت الأنوار فى داخل الصالة وخارجها تسطع والبالونات الزرقاء والحمراء والصفراء والبنفسجية تسبح فى سماء طوكيو وريح الليل ليست عاصفة والمدينة فى  هذه الساعة بدأت تصفو وتتزين متجلية فى أروع حللها..
     وكانت السيارات تمرق فى الخارج كالسهام .. والمترو فى الحى المتألق .. يبدو بأنواره الزاهية وكراسيه القطيفة وستره الحمراء كأنه بساط سليمان ..
     ولم أكن وأنا أضرب فى قلب الحى منذ ساعة أدرى السبب الذى مال بى إلى ملعب القمار .. وربطنى بسلسلة فى هذه الآلة .. لعله السأم .. أو القلق أو الوحدة المرة ..
     لم أكن أعرف أحدا فى هذه المدينة الكبيرة ..
     وأخذت كالسمكة الصغيرة التى تسبح فى المحيط .. أتحرك .. حتى وقعت فى الشبكة .. ولكن هل من خلاص ..
     أخذت أدير عينى فى الوجوه التى حولى وكانوا جميعا مستغرقين فى اللعبة محدقين فى القرص .. الدوار ..
     وأخرجت خمسين « ينا » وقررت أن تكون آخر جولة وقبل أن ألقيها فى الثقب سمعت صوت أنثى .. يقول بالإنجليزية :
     ـ دعنى أحرك الأكرة ..
     فتلفت فوجدت حسناء يابانية تقف ورائى .. وأفسحت لها المكان .. واحتلت مكانى .. وحركت الأكرة برفق .. فتساقطت الينات .. وابتسمت وهى تنظر إلى فى وداعة ..
     وقالت :
     ـ الآلة تحتاج إلى لمسة من الحنان فالعنف لا يفيد ..
     ولعلها رأتنى أكثر من مرة وأنا أحرك الآلة بعصبية وأكاد أحطمها .. العنف لا يفيد .. حتى فى هذه الأشياء الصماء .. فإنها فى حاجة إلى لمسة .. مسحة على الجبين ..
     وربحت كثيرا وأخذت أضع الينات فى جيوبى ثم تراجعت عن الآلة وأنا أشكر الفتاة محنيا رأسى أكثر من مرة على طريقتهم للتعبير عن الشكر ..
     وسألتنى وأنا انسحب :
     ـ ألا تواصل اللعب .. ؟
     ـ لعبت ما فيه الكفاية ..
     فظلت ترمقنى بعينين باسمتين وأنا أتفحصها من أنفها لقدميها .. كانت جميلة الوجه .. رقيقة المشاعر وتتكلم الإنجليزية بطلاقة .. مما حدا بى لأن أسألها :
     ـ إنك تجيدين الإنجليزية .. هل تعلمت هناك .. ؟
     ـ أبدا .. إننى ما بارحت طوكيو قط .. جيل ما بعد الحرب كله يتكلم الإنجليزية ..
     ـ أجل .. لاحظت هذا فعلا ..
     وسألتها بعد أن رأيتها كالمترددة :
     ـ ألا تودين اللعب .. ؟
     ـ لا .. إننى مالعبتها قط ..
     وحدقت فيها مستغربا ..
     وقلت :
     ـ كيف هذا .. ومجرد لمسة منك للآلة أسقطت كل هذه النقود .. لقد تصورتك محترفة ..
     ـ إننى ما لعبتها قط .. حركت الآلة من أجلك .. بعد أن رأيت على وجهك الحزن ..
     وخمنت أنك خسرت كثيرا ..
     ـ ما أسعد حظك .. !
     ـ أبدا .. إنها حركة جاءت عفوا ككل ما يحدث فى الحياة ..
     ورأيت إنسانا جميلا ينتشلنى من وحدتى القاتلة فى المدينة الكبيرة وخفت أن تفلت منى فقلت لها :
     ـ هلا تناولت معى فنجانا من الشاى .. ؟ لقد غيرت خط حياتى الليلة ..
     ـ ما أجمل العرض .. !
     وخرجنا من الملعب خفيفين نحلق تحت الأضواء الباهرة وكانت الحركة فى الطريق شديدة .. فكنا نقف طويلا على رأس الشوارع لنعبر فى حيطة ..
     وسألتها ونحن نجتاز نفق المترو ..
     ـ هلا اخترت المكان .. ؟
     ـ الأحسن أننا نذهب إلى « جنزا » فهى قريبة ..
     ومشينا تحت الجسر ثم عبرنا الكوبرى مجتازين الترعة .. حتى اقتربنا من ملهى « الحريم » ..
     ولما عرضت عليها الدخول رفضت فسألتها :
     ـ لماذا .. ؟
     ـ ستتكلف كثيرا وما الداعى للمصاريف .. ؟
     ـ لقد ربحت الليلة .. بفضلك ..
     ـ ولكنك تركت لى اختيار المكان .. فلا تسحب كلمتك ..
     وكانت تبتسم فى دلال .
     واختارت مشربا من مشارب الشاى الهادئة الجميلة فى حى جنزا ..
     وكان المحل من ثلاثة طوابق .. فاخترنا الطابق الثانى لقلة رواده .. وجلسنا فى الزاوية الشرقية نستمع إلى موسيقى خفيفة فى جو مشبع بالشاعرية ويبعث على النشوة ويحرك القلب .. إذ كانت الجدران مزينة بسهام الحب المراشة .. والزهور والورود فى الأركان .. والستر الحريرية ترتعش من اللمسات الخفيفة .. وحملت لنا الساقية الجميلة فوطتين ساخنتين فى طبقين صغيرين فوضعت واحدة منهما على وجهى وشعرت بالانتعاش ..
     واكتفت صاحبتى بأن مسحت يديها بالفوطة وتطاير البخار الساخن ..
     وسألتنى بعذوبة :
     ـ متى جئت طوكيو .. ؟
     ـ منذ عشرة أيام ..
     ـ وأين تنزل .. ؟
     ـ فى فندق دايتشى ..
     ـ فندق جميل .. وفيه أجمل بنات طوكيو ..
     ـ ليس هناك من هو أجمل منك ..
     ونظرت إلى عينيها وسألتها :
     ـ ما اسمك .. ؟
     ـ فوميكو ..
     ـ اسم جميل ..
     ـ وأنت .. ؟
     ـ أحمد ..
     ـ من السهل أن أنطقه ..
     ـ يسعدنى هذا ..
     وقلت لها وأنا أحدق فى عينيها الصافيتين ..
     ـ ما هو عملك فى طوكيو ..
     ـ أمشى فى الليل ..
     وارتجف بدنى .. الحرفة نفسها هزتنى .. ولكن جمال الفتاة أسرنى ..
      وكنت مأخوذا بشىء جديد لا أستطيع رده .. كنت منجذبا إلى عينيها ولون شفتيها وتاج الشعر الذى يغطى رأسها الصغير .. وبشرة صافية فى لون الحليب الممزوج بالشهد .. ولم أر فى حياتى شفتين فى لون الكريز يتنديان بالرضاب من أقل انفعال كشفتيها .. ومن خلال الحديث الطويل ارتج بنا المكان فجأة .. حتى تحركت الكراسى والأطباق ..
      وسألتها :
     ـ ما هذا .. ؟
     ـ زلزال ..
     قالت هذا ببساطة ..
     وقبل أن أعلق على عدم اهتمامها بالأمر أحسسنا بهزة أخرى ولكن فى عنف هذه المرة ..
     ـ زلزال آخر ..
     ـ أجل ..
     داخلنى الرعب .. فوجمت ..
     فسألتنى وهى باسمة ..
     ـ أتخاف .. ؟
     ـ أجل .. لأن الزلزال مقرون فى خاطرى بالموت دائما ..
     ـ أتخاف من الموت .. ؟
     ـ ومن الذى لا يخافه ..
     ـ أنا .. إننى أتمناه فى كل ساعة ..
     ـ هل الحياة بشعة إلى هذا الحد .. ؟
     ـ بشعة جدا ..
     ثم قالت :
     ـ فلنذهب إذن إلى بيتى .. إنه من الخشب ومن طابق واحد .. ولا تؤثر فيه الزلازل ستكون بنجوة هناك ..
     ولما كانت ستحقق رغبتى فى مشاهدة بيت يابانى .. فقد سررت جدا من العرض ولكن سألتها :
     ـ وهل سيحدث زلزال آخر .. ؟
     ـ ما دامت قد بدأت هكذا ستزلزل .. مرة ومرات ..
     وخرجنا من المشرب على التو وركبنا سيارة أجرة ..
***
     وقضينا نصف ساعة بها فى الطريق إلى بيتها وأحسست بالراحة وهى ملاصقة لى وكانت تلبس معطفا وأنا لا أرتدى معاطف فأشاعت الحرارة فى بدنى وهى تضغط على جسمى برفق ضاحكة بدلال الأنثى التى اكتمل نضجها وكانت فى الثلاثين أو أكثر قليلا وترتدى الملابس الأوروبية كأجمل الأنيقات فى المدينة وتجيد الإنجليزية لاختلاطها أو لأنها تعلمتها فى المدرسة ..
     وكان ركوبى معها فى الليل إلى بيتها مغامرة ولكننى أحسست بالإطمئنان وأنا أنظر إلى عينيها وأسلمت قيادى لها .. حتى بلغنا البيت ..
     وكان من طابق واحد ومن المنازل القديمة .. القاتمة .. وكان محاطا بحديقة صغيرة منسقة جدا وخلعت حذائى أمام العتبة ومشيت على الحصير حتى بلغنا البهو الداخلى ولم أسمع حسا وأنا داخل فخمنت أنها تعيش وحدها ..
     ولكن خاب فألى لما ظهرت سيدة مسنة فى الكومينو وأخذت تحرك الأبواب الجانبية وتنحنى لى مرحبة .. وجلسنا نشرب الشاى ونتحدث فى قاعة صغيرة على الأرائك متربعين وكانت الستر الحريرية مسدلة والأبواب التى تتحرك على عجل مشرعة .. والزهور والرياحين فى الأركان والبيت كله مفروش بالحصير .. وفى نظافة تجل عن الوصف .. وكان فى الناحية الغريبة منظر ساحر يكشف سماء طوكيو .. ولكنى كنت أتجه بكليتى نحو «فوميكو» ..
     كان جمالها يسبى العقل ..
     ولم أر فى حياتى أنثى فى مثل عذوبتها ورقتها .. وغابت عنى قليلا ..
     وعادت بعد أن غيرت ملابسها الأوروبية ووضعت الكومينو فوق جسمها وحلت تاج شعرها .. فبدت فى جمال شرقى ساحر .. وكان الكومينو الأزرق قد أضفى على بشرتها الصافية لونا جذابا ..
     وقدمت لى الساكى .. وأخذنا نشرب ..
     وكانت قد صرفت الخادمة العجوز وأصبحنا وحدنا ..
     وتحت تأثير الساكى عانقتها وغبت فى نشوة العناق .. ثم استفقنا على بكاء طفل فحولت رأسها عنى وسهمت قليلا ..
     ثم نهضت وهى تقول :
     ـ لحظة واحدة ..
     وعرفت أنه طفلها وأحسست بالبرودة تسرى فى كل ألياف لحمى .. وجلست صامتا .. وكانت هى قد دخلت غرفة الأطفال ..
     وأبصرت من خلال الباب الموارب فى الضوء الشاحب ما بالداخل فشاهدتها تحمل على صدرها طفلا لا يزيد عمره على سنتين تحاول إسكاته عن البكاء وهناك طفل آخر أكبر سنا يرقد على حشية ..
     وتأثرت من منظر الطفلين جدا وبرح بى الألم ..
     إنها تبيع لحمها لتجد الطعام لطفليها .. شعرت بالخجل .. ولعنت نفسى..
     ولما عادت بعد أن سكت صراخ الطفل وجدتنى واجما لا أنبس وقد تغير حالى ..
      فسألتنى :
     ـ ما بك .. ؟
     ـ صداع .. ربما من الساكى لم أتعود عليه ..
     ـ لا تأثير له على الإطلاق .. فلا تفكر فى الأمر ..
      ولكننى كنت أفكر فى أمور أخرى .. فيها وفى فقرها ووجدتها وقد جرتها الحياة إلى أن تخوض فى الوحل ..
***
     وتناومت فى مكانى وأحسست بها وهى تدثرنى بالبطانية وتريح وضع رأسى فى حنان لم أشعر به من أنثى قبلها ..
     وفى الصباح .. وقبل أن تستيقظ وضعت عشرة آلاف ين على المنضدة مع كلمة وداع رقيقة .. وتسللت إلى الخارج ..
     وكانت طوكيو متألقة وتجرى كالحياة ولا شىء من الأحداث يمكن أن يوقفها ..

=================================  
نشرت القصة فى صحيفة التعاون بالعدد 165 بتاريخ 17/4/1966 وأعيد نشرها فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971
================================




الثلاثة



كانوا ثلاثة .. يلعبون لعبة جهنمية رهيبة فى جسارة عديمة النظير .. يعتمدون فيها على الذكاء الخارق والفراسة المشتعلة وقوة الأعصاب ..
وكانوا يتخذون موقفين ثابتين وما يغيرونهما تحت " بواكى " الأزبكية وفى جدار المركز الرئيسى للإسعاف ..
وهنا وهناك يتساقط المارة فى الفخ الذى نصبوه لهم باحكام وفن .. كما يتساقط الذباب حول العسل ..
كانوا يلعبون الثلاث ورقات .. يلعبون اللعبة التى يسيل لها اللعاب ويزيغ البصر ويرجف القلب وتهتز المشاعر .. ويتصيدون المارة والعابرين فى ساعات القيلولة وساعات السأم والملالة .. والقلق المدمر .. وفى لحظات الغيبوبة التى تسبح فيها الأحلام وفى ساعات تفسخ النفس ومواتها ..
وكانت طريقتهم فذة وتدل على براعة فريدة وذكاء خارق .. فأحدهم يغرى المارة على اللعب بالكلام المعسول والحديث المنمق والآخر يلعب ويكسب بالجنيهات فى دقائق قليلة تحت نظر المشاهدين .. يكسب ويكسب وكلما رمى ورقة بجنيه ربح مثلها .. ويظل يكسب والمشاهدون تتفتح أشداقهم ويسيل لعابهم حتى يتقدم مشاهد فى الحلقة تحت سيل الاغراء ويخرج محفظته .. فيتراجع لاعب العصابة ويفسح له المجال .. ويحس المشاهد الذى سقط فى الفخ بعد نصف دقيقة أنه مسيطر على الموقف كله .. وأن الأمر بين يديه .. فيزداد نشاطه وتزداد ثقته فى فراسته .. ثم لا يلبث يحس بالدنيا تدور وهو يخرج الجنيه وراء الجنيه .. لقد دخل فى الدوامة .. وتبرق عيناه وتتسع مقلتاه .. ويسح عرقه ويتلفت حواليه .. ليبحث عن الإنسان الذى ينقذه من هذا الشيطان المريد الذى يحرك " الكوتشينه " وكأنه يمسكها بخط سرى ..
ولكنه لا يجد معينا على الاطلاق ..
وكان الثلاثة يتحركون حيث يوجد العمل الباهر .. فمن مولد السيد البدوى إلى مولد الدسوقى فى رقعة الدلتا ثم رحلة ممتعة إلى العباس المرسى فى الثغر الجميل ..
وبين مولد السيدة زينب .. وسيدنا الحسين .. يقفون ثلاث وقفات طويلة .. يغيرون فيها الزى والطريقة .. ثم يبدأ عملهم تحت بواكى القاهرة .. فى ساعات القيلولة .. حيث تهدأ حركة الأقدام .. لأنهم لا يحبون الحركة ولا الزحام ..
***
وكان إسماعيل هو رئيس هذه الفرقة .. ومحركها وأشد الرجال براعة وذكاء .. وهو شاب فى الثانية والثلاثين من عمره قمحى اللون نحيل .. متوسط الطول .. وتحت ذقنه أثر ضربة بمشرط .. عفى عليها الزمن ..
وكان هو الوحيد على خلاف رفيقيه الذى يلبس البدلة كاملة .. فى الصيف والشتاء أما رفيقاه فأحدهما يرتدى الجلباب البلدى والطاقية والآخر يلبس بنطلونا أحمر فوق صدار داكن من الصوف والثلاثة متقاربون فى السن والطباع ..
   كان إسماعيل أكبرهم وأشدهم فراسة فهو يستقبل زبائنه دوما .. وطرف لسانه فى العسل .. فينمق الحديث ويدور به ويلطفه .. ويجعل المكسب سهلا واللعب نفسه شجاعة الشجعان .. وعيناه البراقتان تراقبان الفريسة .. كما يرقب الثعبان العصفور المضيع فى عشه .. فاذا وجده تخاذل تماما ولكنه مع تخاذله .. بدأ يشك فى اليد السحرية التى تحرك الورق .. أشار بعينه إلى رفيقيه .. فيأتيان بحركة المذعور من شىء وقع كالحريق ..
ويتفرق الجمع سريعا وينفض السامر .. ويطوى اسماعيل الورق فى جيبه ويثب وثبة واحدة .. ثم يسابق الريح ..
***
وتتلفت حواليك وكأنما انشق على الثلاثة نفق فى أعماق الأرض أو ركبوا .. بساط الريح ..
***
وفى ساعة من ساعات القيلولة جلس إسماعيل فى ظل بواكى الأزبكية يتصيد العابرين فى هذا المعبر ..
ووقف أمامه لاعب يبدو من شكله أنه مغامر محترف .. ولكنه خسر أربعة جنيهات فى أقل من ثلث الساعة .. وكان المشاهدون يتزايدون ويتناقصون تبعا لتحرك اليد السحرية ..
ومع أن كثيرا من الواقفين حول الحلقة كانوا يعرفون كل الاعيب الفرقة وبراعتهم فى الخداع .. ولكنهم كانوا يحسون بشىء خفى يجذبهم إلى اللعب .. قوة لا يستطيعون ردها ولا دفعها .. فكانوا يلعبون .. ويخسرون .. وفى كل تسع حالات من عشر .. كانت تحدث الخسارة حتما بصورة دقيقة ومنتظمة ..
***
وكانت الساعة قد تجاوزت الرابعة بعد الظهر عندما وقف شاب أمام إسماعيل وهو يقلب الورق وحوله ثمانية أشخاص ..
ورجل يلعب بجساره ونظر إسماعيل إلى الشاب .. طويلا .. وهذا لا يحرك ساكنا ..
وقال إسماعيل للشاب وهو يتأمله مليا :
ـ العب .. فالمكسب مؤكد ..
فهز الشاب كتفيه ..
وقال إسماعيل :
ـ أعرف أنك لا تلعب ..
ـ ولماذا تقول لى العب إذن ..؟
ـ لأختبر فراستى ..
ـ وصدقت ..؟
ـ أجل .. وما خابت قط ..
ورآه يطوى الورق ويسترخى وكانت الشمس تسطع ولكن حركة لمرور كانت قد قلت تماما .. فبارحه رفيقاه ليستريحا ويشربا الشاى فى قهوة ملاصقة للمكان ..
وظل الشاب فى مكانه يتأمل إسماعيل ثم أخرج الشاب علبته وقدم له سيجاره فطابت نفس إسماعيل لهذه الحركة العطوف وسأله الشاب بعد أن سحب كرسيا على رصيف القهوة وجلس بجوار إسماعيل وطلب له الشاى :
ـ المكسب اليوم طيب ..؟
ـ بالطبع ..
ـ ألا تخسر أبدا ..؟
ـ وكيف أخسر ..؟
ـ ألا يخونك الحظ ..؟
ـ أبدا ما خاننى الحظ قط ..
ـ ألا تشفق على الضحايا ..؟ أنهم مساكين ..
ـ والله أنا المسكين فى الواقع .. هل أنا الذى أوجد الأغبياء والحمقى فى هذه الدنيا ..؟
ـ أبدا .. منذ متى وأنت تلعب ..؟
ـ منذ خمسة عشر عاما ..
ـ ولم تتوقف ..؟
ـ سجنت ثلاث مرات .. وبالطبع لم ألعب هناك ..!!
ـ وتخرج لتلعب ..؟
ـ وما الذى أعمله غيرها .. والناس حمقى واغراء المال سهل .. واللعبة أسهل الأشياء طرا .. والناس يسيل لعابهم لمجرد منظر أوراق البنكنوت .. المال يميت ويحيى .. واللعبة بسيطة .. غاية فى البساطة .. جنيه يصبح خمسة فى غمضة عين فمن الذى لا يلعب ..
ـ ولكنك تكسب بالشطارة .. دون عرق أو جهد ..
ـ وتحت تأثير هذا الاغراء .. يلعبون .. ليكسبوا بسهولة ..
نشرب قهوة مع بعض ..
ـ شكرا ..
وطلب اسماعيل فنجانين من القهوة .. ثم سأل :
ـ حضرتك مدرس ..؟
ـ أبدا ..
ـ كان هناك مدرس يشبهك تماما .. فى عودك وله شارب طويل مثلك وكان يحمل لى ودا دفينا ..!!
ونفث الدخان واستطرد :
 كنت صبيا .. فقيرا يتيما فى مدرسة كان فيها الكثير من أبناء الذوات ..
وكان هذا الأستاذ .. كلما زارنا مفتش .. غير مكانى من الفصل .. إذ كنت لقصر قامتى أجلس فى الصفوف الأولى ..
ولكنه يجعلنى فى نهاية الصف .. بحيث لا تقع عين الزائر على ملابسى البالية ومظهر فقرى ..
ومرة زارنا الوزير .. فأخرجنى هذا الأستاذ من الفصل كلية وحرمنى من الدراسة .. وخرجت وأنا أغلى غيظا ..
وبعد أن انتهى يوم الدراسة .. وجدته فى الشارع وأنا شبه محموم مما حدث .. فرميته بحجر شج صدغه .. ورفت من المدرسة .. ومن وقتها وأنا فى الشارع .. وكلما وقف أمامى رجل وأنا أحرك الورق تصورته هذا المدرس .. ويظل أمامى حتى يسقط من طوله ..
ـ دائما أنت الرابح ..
ـ بالطبع ..
ـ ولكنى شاهدت منذ لحظات الرجل الذى يرتدى البدلة الرمادية .. يربح على طول الخط ..
ـ لقد تعمدت أن يربح ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأن الورقة زائفة ..!
وابتسم وغطت الابتسامة كل ملامح وجهه ..



========================
نشرت القصة فى صحيفة المساء بالعدد 3092 بتاريخ 29/4/1965 وأعيد نشرها فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971
========================




المظروف

حدث منذ سنوات .. وكنت رئيس السكرتارية فى احدى المصالح الشديدة الاتصال بالجمهور وكان العمل كثيرا ومرهقا فكنا نسهر لانجازه إلى ساعات متأخرة من الليل ..
ورغم المشقة وتحمل عناء السهر وعضة الجوع ورعشة البرد فى ليالى الشتاء .. فقد كنا نعمل بنشاط واخلاص وبنفوس راضية ..
ولم يكن ذلك لأن المرتبات فى وقتها كانت مجزية والمكافآت سخية ..
بل لأن مدير المصلحة كان رجلا نادر المثال ..
كان كريم الخلق يعلو بنفسه الكبيرة عن الصغائر واسع آفاق التفكير .. وكانت ابتسامته المشرقة تغرقنا فى طوفان من الحماسة للعمل لا يفتر أبدا ..
ولم نكن نسمع منه كلمة زجر أو ارهاب واحدة .. وتكفى اللفتة البسيطة لتجعل المخطىء منا يغرق فى سيل من العرق ..
ووقعنا فى حيرة من صفاته العديمة النظير واسترحنا لما استقر بنا المطاف وانسحب تفكيرنا إلى أنه لا بد أن يكون من سلالة الخلفاء الراشدين ..
***
وفى صباح يوم جميل من أيام السبت استدعانى المدير إلى مكتبه وألفيت شابا نحيلا متوسط القوام فى حوالى الثلاثين من عمره يجلس منكمشا فى ركن هناك .. وأخذ يرقبنى .. باهتمام من وراء منظاره وأنا داخل وعرفنى المدير به وتصافحنا ..
وكان موظفا جديدا منقولا من الإسكندرية وسرنى لما عرفت من صفاته أنه يجيد الكتابة على الآلة الكاتبة وكنا فى حاجة شديدة إلى واحد من هذا الطراز لنعزز به جهاز العمل ولأن الآنسات الثلاث اللواتى كن يضربن على الآلة الكاتبة كن كثيرات الأخطاء لدرجة تثير الفزع ..
وأوصانى المدير به خيرا ..
واخترت له مكتبا فى حجرة واسعة فيها أربعة من خيار الموظفين رحبوا بقدومه كل الترحيب ..
ولاحظت فى الأيام الأولى من وجوده فى السكرتارية أنه صامت لا يشارك الموظفين فى حديثهم اليومى ولا فى مرحهم ونكاتهم .. وعزوت ذلك لحداثة عهده بهم ولأنه لم يألف صحبتهم بعد ..
ولكن المدير كشف عن بعض طباعه فحدثنى أنه مريض بالأعصاب ويشعر دوما بأنه مضطهد ومظلوم ولم يأخذ حقه فى الحياة .. ولنزاعه مع زملائه فى العمل .. وتشاحنه معهم وكثرة شكاواه فيهم فانه ينقل دائما من بلد إلى بلد حتى أصبح فى حالة تشريد يرثى لها .. وسمع به المدير فعطف عليه وجاء به فى المصلحة .. واختارنى لأعامله معاملة خاصة .. فلا أرهقه ولا أثيره حتى يسترد احساسه بآدميته وتزول عنه عقدة الاضطهاد ويكف عن الشكوى ..
واستطعت أيضا أن أعرف سبب علته وانهيار أعصابه ذلك أنه كان متزوجا من شابة حسناء وكان يحبها بجنون ولكنها تركته فى الشهر الأول من الزواج وطلبت الطلاق .. فتصور أن الناس هم الذين نفروها منه ودفعوها إلى ذلك .. وطلقها وكرههم جميعا ..
وكانت صدمة الطلاق شديدة الوقع عليه حتى فصلته كلية عن الحياة والناس ..
والواقع أن معرفتى بحياته الخاصة هذه جعلتنى أزداد عطفا عليه وأخذت أعامل عباس معاملة خاصة .. وكنت أنصره دائما على زملائه إذا اختلف معهم فى شىء .. ولا أثقل عليه ولا أكلفه بالحضور فى المساء إلا إذا كان راغبا فى ذلك ..
كنت أود أن يشعر بأن هناك من يعطف عليه ويعزه .. كما أن الآنسات فى المكتب كن يتوددن إليه ويضاحكنه حتى ينسى ما حدث من زوجته ويسترد ثقته فى نفسه ..
ولاحظت بالفعل أثر هذه المعاملة الطيبة فيه فقد كان هادئا دؤوبا على العمل قليل الشجار والاثارة العصبية ..
لقد هدأت أعصابه ورجعت إليه نفسه تماما ..
وكان دائما ينقر على الآلة الكاتبة حتى كنت أحس بنقره وأنا فى غرفتى ..
وكان المدير يسألنى عن حاله كل أسبوع تقريبا .. وأنا ازكيه وأقول له أنه مثال الموظف الهادىء الدؤوب على العمل .. ولا أرى فيه أى اعوجاج على الاطلاق ..
وسر المدير جدا وهنأنى على نجاحى فى ترويضه حتى هدأ وسكنت نفسه الثائرة .. وكنت أحس بالفخار لأنى أنقذت مخلوقا بشريا من الدمار .. وأصبح شعورى بالسعادة لا يقدر ..
وفى مدى شهور قليلة أصبح عباس هذا من أصدقائى ..
***
ومرت الأيام فى هدوء وسلام والشمس تشرق علينا والأعمال تسير .. إلى أن جاء صباح فوجئت فيه بنقل عباس من المصلحة وابعاده عن القاهرة كلية ..
ودخلت على المدير وأنا لا أكاد أضبط أعصابى .. فقد أحسست أن هذا الرجل الكبير اهتزت صورته لأنه ظلم موظفا صغيرا لغير سبب ..
وأدرك المدير تغير نظرتى إليه وتعجبى من أن يصدر مثل هذا الأمر منه ففتح درج مكتبه وناولنى مظروفا .. وقال باسما :
ـ أقرأ ..
ولما تناولت أول ورقة من المظروف الممتلىء بالأوراق ارتعشت يدى وغامت عيناى وكدت أقع صريعا على الأرض .. فقد كانت شكاوى من عباس ضدى .. وشكوى واحدة منها كافية بأن تجرنى بسرعة الصاروخ إلى المشنقة ..
=======================
نشرت القصة فى صحيفة التعاون بالعدد 154 بتاريخ 30/1/1966 وأعيد نشرها فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971
=========================
 



الطبيب

كان الدكتور شفيق جارى فى سكة عبد الرحمن بك بالحلمية الجديدة .. إذ كانت عيادته فى مواجهة شقتى وكنا نسكن فى بداية الصف من سلسلة بنايات قديمة .. وكان عنده تمرجى واحد يقوم بكل العمل يستقبل المرضى ويخدمه .. لأن الدكتور كان يقيم فى نفس العيادة ..
وكان يفد على عيادته كثير من المرضى وأكثرهم من الريف .. ولم أكن أدرى أول الأمر سبب شهرته .. ثم عرفت ثقة الناس المطلقة به ونظرته الإنسانية إلى كل من يقصده لعلاج ..
فقد كان الرجل يلمس قلوب المرضى قبل أن يحرك سماعته .. ولكن على الرغم من شهرته المدوية .. فقد كانت عيادته فى فوضى عجيبة .. القنانى الصغيرة بجانب الحقن ولفات القطن والأدوية الجاهزة فى أكوام وقد علاها التراب ..
ولما كانت غالبية المرضى من الفلاحين الأميين فقد كان يعطيهم الدواء جاهزا بدلا من الروشتة ..
ودائما يجد مشقة فى شرح طريقة تعاطى الدواء وتناول الجرعات أو الحبات سواء كانت قبل الأكل أو بعده على أنه كان يعمل فى جلد عجيب ..
وكان منبع عظمته من تفاؤله الشديد وبعث الأمل فى النفوس الخامدة وقوة جلده .. ودرايته التامة بعلل النفس البشرية ..
وكان معظم مرضاه لا يدفعون له أجرا على الاطلاق .. ولكنه كان يعوض هذا مما يأخذه أضعافا مضاعفة من المرضى الأغنياء وعلى الأخص عندما يعودهم فى بيوتهم .. وكنت أجد متعة كبيرة عندما أجد باب عيادته مفتوحا وفى الصالة والحجرات خليط من الريفيين وسكان القاهرة بأطفالهم ..
وكان الطبيب الإنسان يتحمل كل ما يصدر منهم من مضايقات وسلوك غير مهذب .. كان الأطفال يمزقون المجلات التى يضعها على المناضد لتسلية المرضى .. كما يحطمون الأوانى الخزفية الصغيرة .. وكل ما تعبث به أيديهم .. إذ كان للطبيب ولع غريب بجمع التحف والأشياء النادرة .. ولسكنه فى نفس العيادة فان هذه الأشياء كلها من ساعات دقاقة وتماثيل صغيرة من الخزف ومن البرنز .. كانت موضوعة فى كل مكان وتحت أنظار المرضى .. وفى متناول أيديهم ..
وكان للدكتور شفيق عزبة صغيرة فى خط المناشى .. واعتاد أن يقضى فيها هو وزوجته وولده .. مساء الخميس ويوم الجمعة بطوله .. فلما توفت الزوجه .. ومات بعدها الابن الوحيد ..
ظل الرجل يذهب إلى هناك وفى وجهه تعابير الألم ولوعة الذكرى .. وعلى مر الأيام أصبحت اللوعة تصوفا شفافا .. والعزبة مكانا جميلا للعزلة وانطلاق النفس من كل أسارها وكل قيودها ..
وهناك كان يشاهد الفلاحين على الطبيعة ويعرف مشكلاتهم فى المعيشة وسبب أمراضهم ..
فاذا جاءوا إليه فى العيادة لم يكن يكثر من أصناف العقاقير .. ويعطيهم زجاجة الدواء من عنده غالبا .. ويبث فيهم القوة من روحه .. ولكونه طويل ممتلىء الجسم .. فقد أضفى هذا المظهر الشكلى عليه هالة وجعل شخصيته قوية وكلمته مطاعة .. ولذلك كان يعتمد على الايحاء النفسى أكثر من اعتماده على الدواء نفسه ..
وكلما خرجت من شقتى أرى باب عيادته مفتوحا .. والمرضى فى الصالة .. بالبدل والجلاليب والسيدات بالفساتين والملايات اللف .. ولكن معظم زبائنه كانوا من أبناء الشعب وإليهم يتجه بقلبه ..
وكان يقول إن الغنى يستطيع أن يذهب لغيره من الأطباء .. وأن يذهب إلى المصيف وقد يكون فى تغيير الهواء ذهاب لعلته .. أما الفقير المسكين .. فماذا يصنع .. أنه فى حاجة إلى لمسة من القلب ..
وما رأيته إلا ورأيت البشاشة على وجهه والثقة وسمو النفس ..
ورغم أنه تجاوز سن الستين فانه لا يزال قويا ..  صحيح البدن .. موفور الصحة .. وفى عينيه بريق .. وفى صوته جهارة وقوة ..
وجعله عمله المتواصل لا يعنى بهندامه ولا يحلق ذقنه فكان يتركها تنمو .. حتى تغطى عارضيه بالشعر الخفيف .. ومنذ ماتت زوجته لم أر نساء فى بيته قط ..
ولكننى شاهدت ذات صباح وكان بابه مفتوحا .. شابة تجلس بجواره وقد شغل بالحديث معها حتى أنه لم يحس بى وأنا خارج من شقتى ..
ثم علمت أنها كانت من مرضاه وقد تزوجها منذ أسبوع وكانت شابة وديعة هادئة وبدا لى جليا أن الرجل اختار فيها أحسن الصفات التى توجد فى الأنثى ..
والتقيت بها ذات ليلة وهما ذاهبان إلى السينما .. وعرفنى بها وأثنى علىّ كجار حتى أخجلنى ..
وكانا سعيدين سعادة لا توصف وظلت سعادتها تفيض على كل من يراهما معا ..
ولكن هذه السعادة لم تدم أكثر من شهر واحد فقد توفى الطبيب ذات ليلة فجأة ..
مات وهو جالس على كرسيه على أثر نوبة قلبية ولما دخلت البيت لأعزى الأرملة .. التى لم يدم زواجها أكثر من شهر .. لاحظت وهى تتحرك فى حزن أنها حامل وفى شهرها الرابع على الأقل ..
وعرفت أن هذا الرجل النبيل بزواجه منها لم يكن يبغى المتعة وإنما كان يود أن يخفى عارها ..


======================== 
نشرت القصة فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971
=======================


 


اللهب

ودعت الطبيب حتى الباب الخارجى .. ولما عدت إلى البيت سألتنى " سعاد " فى لهفة عن نتيجة الفحص فطمأنتها .. ورجوتها أن تبقى بجانب أختها المريضة .. حتى أجىء بالحقن ..
ونزلت إلى " الحوش " وأعطيت عبد العظيم الروشتة وكلفته بأن يركب الفرس ليلحق أجزخانة " مخالى " قبل أن تغلق .. فانطلق ..
وجلست على " عتبة الحوش " ورأسى على راحتى وكانت بدلتى قد اتسخت من التراب والعرق وأنا أبحث عن طبيب المركز وبدت أمامى أجران القمح مكومة فى العرصة .. وكان لى جرن كبير لم يدرس ملاصقا لبساتين النخيل وكانت الريح راكدة .. والظلمة شديدة ..
وجذوع النخيل سامقة تبدو كأعمدة من السواد تصعد فى الجو ..
وكان يقطع السكون المحيط .. نباح الكلاب .. وصوت الخادمة " زاد المال " وهى تتحدث فى صحن الدار ..
وجلست فى مكانى ساعة كاملة دون أن أتحرك ولم يحس بوجودى فى هذا المكان أحد من أهل القرية .. وكنت أحن إلى هذه العزلة لأجتر أحزانى .. وكان الورم الخبيث قد بدأ يزحف فى جسد " أمينة " منذ ثلاث سنوات دون أن تحس به المسكينة أو تدرك خطورته .. فلما قال لى الطبيب اليوم أنه يسرى فى الدم .. انطفأت كل مصابيح الأمل ..
وكانت زوجتى فى الواقع يتيمة ومسكينة ولم يبق لها من الأهل سوى أختها " سعاد " ورأيت أن أكتم عنها هذا الخبر .. لأنه ليس للنساء أعصاب تحتمل .. الفجيعة .. ولأننى لم أيأس قط من رحمة الله ..
وعندما رجع " عبد العظيم " بالحقن .. أشفقت على المعذبة المسكينة التى تأخذ من هذه السموم منذ سنة ولم يبق فى جسمها موضع لم تنغرس فيه إبره ..
وكانت " سعاد " قد تعلمت كيف تحقن أختها .. وبذلك حلت مشكلة الممرضة .. فى قرية صغيرة تبعد عن أقرب وحدة صحية بمقدار عشرة فراسخ ..
وأعطتها الحقنة .. وكانت " أمينة " تنام عادة بعد أن تحقن بدقيقتين .. وكنت أنزل بعدها إلى المضيفة لأصرف بعض الشئون مع الفلاحين وأنام .. فاذا وجدت سعاد ساهرة صعدنا إلى السطح .. لنتحدث فى الهواء الطلق .. فقد كان حر يونية اللافح يخنقنا فى الغرف المسقوفة ..
ولما رأت " سعاد " وجومى وشرود ذهنى أخذت تلطف الجو .. بحديثها العذب وضحكاتها ..
وكانت كلما رأت السكون والجمال من حولها .. تطلب منى أن تخرج " بالدوكار " ولكننى كنت لا أحب أن يرانى أهل القرية وبجانبى امرأة فى عربة مكشوفة فأخذت أسوف وأجعلها ترى كل شىء من برج السطح ..
ترعة الابراهيمية والبساتين .. وحقول القصب .. وأشجار البرتقال والليمون وحتى أنوار " أبو قرقاص " .. وجاء زوجها مرتين ليأخذها ولكنها رفضت حتى تطمئن على أختها .. وكان الرجل عندما يقع نظره على أمينة يخجل ويرجع وحده .. وكان عمله فى الواقع يشغل كل وقته .. وما دام لم ينجب فليس من الصعب عليه أن يعول أمر نفسه .. خصوصا وأنه كثير الأسفار .. ووجدت نفسى أتساءل بعد أن سافر .. هل سعاد سعيدة معه .. الواقع أن حياته كانت حياة الرجل الناجح ولم يكن ينقصه أى شىء ليسعد أنثى ..
وكانت مذ جاءت إلى القرية قد تركت نفسها على سجيتها ..
وكانت هذه أول زيارة طويلة لها .. إذ لم تمكث قبل ذلك أكثر من يومين .. وفى هذه الزيارة الطويلة .. كنت أشعر بالارتياح كلما رأيتها .. وكلما سمعت صوتها ..
كانت هى المصباح .. فى ظلام المحنة التى تحيط بى ..
وكنا نتعشى تحت سقف السماء ونتحدث .. وسألتنى ذات مساء :
ـ هل أنت سعيد فى الريف ..؟
فأجبتها على الفور :
ـ الشىء الواضح للناس أننى تركت الكلية .. بعد وفاة والدى وجئت لأعيش هنا فجمعت ثروة ..
ـ وهل أنت سعيد بها ..؟
ـ أنها قد ذهبت كما جاءت بأسرع مما يتصوره العقل .. ولكن الشىء الباقى فى المسألة أننى أضع قدمى على أرض ثابتة .. وأنام تحت ظل شجرة .. فى العراء .. وآكل الخبز بالجرجير وأشرب من ماء الترعة .. ولا أشعر بأنه ينقصنى أى شىء على الاطلاق .. وهذا احساس لم أكن أشعر بمثله فى المدينة .. فالسعادة فى الواقع تأتينا من داخل نفوسنا .. ولا تأتى من الخارج قط ..
وكانت سعاد تبتسم لهذه الفلسفة الأفلاطونية .. ولم أكن أدرى أتقرنى على الآراء أم لا .. ولكنى كنت أرى فى عينيها كلما تدفقت فى الحديث .. البريق الذى أشتهيه فى الأنثى ..
***
وأطلعتنى ذات مساء على رسالة من زوجها .. وقالت وهى ضاحكة :
ـ أنه يلح على عودتى .. وإلا سيتزوج ..
وأضافت :
ـ ما أعجب الرجال .. عندما كنت معه .. كان مشغولا بعمله .. ولا يعطينى شيئا من وقت فراغه .. ولا يشعرنى بأننى موجودة معه فى بيت واحد .. والآن هو مشتاق .. وإن لم أرجع سيتزوج ..
فتعجبت .. وضحكنا ..
وعادت وكررت رغبتها فى أن تخرج بالدوكار أو تركب أحد الجياد .. وتسير به فى الحديقة فقط حتى لا يراها الأهالى ..
فوعدتها بأن تخرج فى نزهة فى الصباح الباكر .. قبل أن يخرج الفلاحون إلى الحقول ..
ولكن فى الصباح ساءت حال أمينة .. فحبسنا معا فى غرفتها إلى الضحى .. وكنت أقدر أنها ستنتهى فى نفس اليوم ولكنها عاشت .. وأخذت تسترد ما ذهب من عافيتها حتى بعثت فى موات .. الأمل ..
وسرت سعاد لتقدم أختها نحو الشفاء .. حتى نسيت الجواد والدوكار ..
***
ومر أسبوع بسلام مطلق وأصبحت ذات يوم فاذا هى منتكسه .. وفى أسوأ حال .. وجاء الطبيب وذهب وخيم الوجوم والحزن على البيت ..
وكان يكرب " أمينة " ويحزنها أنها ستتركنى دون أن تترك لى ذكرى .. قطعة من لحمنا .. تذكرنى بها .. وكان هذا يحزنها كثيرا ..
وكانت عبراتها تهز مشاعرى فتركتها .. ودخلت غرفتى .. وبعد برهة جاءت سعاد تحمل إلىّ فنجانا من القهوة ..
ووجدتنى محموما .. وكانت هناك ألسنة من اللهب تشتعل فى جمجمتى .. والواقع أننى تعبت .. وتحطمت أعصابى .. ولما أجمع الأطباء على تشخيص الداء .. أسقط فى يدى وتلقيت الصدمة بذهول مطبق .. وكنت أعيش مع امرأة ذاهبة .. ولكنها فى الواقع شريكة حياتى .. ومن النذالة أن أتخلى عنها فى ساعة مظلمة ..
وكان يزيدنى حبا لها وتعلقا بها أن والديها توفيا من عشرات السنين وليس لها غير " سعاد " .. وكانتا من أصل شركسى .. وانقرضت أسرتها كلية .. وعندما تزوجت كنت أريد امرأة تتحول إلى الريف بروحها وبدنها ..
ووجدتها طيعة أمينة .. وساعدتنى على النجاح .. وجاء الخير كله على يديها ..
أما الآن فقد شغلنى مرضها عن أعمالى .. وحطم أعصابى .. وسهرنا بجانبها ثم أعطيناها الحقنة .. فنامت مبكرة .. ونمت مثلها ..
***
واستيقظت فى منتصف الليل .. على همهمة الجواد فى الحوش .. فنزلت إلى هناك وفوجئت " بسعاد " على ظهره من غير سرج .. وكان الجواد مربوطا ..
فضحكت .. ورأيت أن أحققق لها بعض الرغبة .. فأسرجته لها على أن تركبه فى مدار الحوش .. ووضعت قدمها العارية فى السرج .. وأمسكت باللجام .. ودرت بها دورتين وهى تضحك كالطفلة ..
ولما اطمأنت وأدركت أنه لا ينقصها أى شىء لتكون فارسة .. طلبت منى أن اترك لها اللجام .. فتركته تحت الحاحها وعينى عليها وهى تسير على مهل .. ورأيت الجواد يجمح فجأة .. فجريت وتلقيتها على صدرى ..
وسقطنا متلاصقين على كوم من التبن .. ووجدت شفتى على فمها .. وذراعيها تشدنى إليها .. ولم يكن هناك شىء فى الوجود نسمعه أو نحس به ..
ومن خلال الدوامة التى لفتنا .. رأينا ضوءا باهرا ينشق عن السماء .. ولما رفعت رأسى عن صدر " سعاد " .. كان الدخان يملأ الجو وكانت النار تشتعل فى الأجران ..
ورأيت أمينه واقفة فى ضوء النار على العتبة تنظر إلينا ونحن متعانقين .. ووجهها ينطق بالرعب .. ثم مالت وسقطت ..
ولما رأتها سعاد دفعت الباب .. وخرجت تجرى مجنونة فى اتجاه النار ..
وظللت فى مكانى لاصقا بالأرض .. وكنت أسمع طرقعة .. وصوت الأشياء اليابسة وهى تتآكل تحت السنة اللهب .. ولا أستطيع أن أتحرك ..
ومرت على الحادث سنوات طويلة .. ولكننى أتمثله كأنه حدث بالأمس فقط ومن وقتها لم أستطع أن أنهض على قدم ..

=========================
نشرت القصة فى مجلة العالم العربى بتاريخ 20/1/1970 وأعيد نشرها فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971
========================  
 
البرتو

فى الأسبوع الثالث من يولية هبت على مدينة القاهرة موجة شديدة من الحرارة اختنق من أنفاسها الناس وهرع الكثير منهم إلى المصايف ..
وهبطت المدينة فى ذلك الحين فرقة راقصة أجنبية جاءت لتعمل فى ملهى " فينوس " فشوتها الحرارة ..
وبعد أن طاف أفراد الفرقة بمعالم المدينة .. وشاهدوا الأهرام وأبا الهول .. وتمثال رمسيس ومتحف توت عنخ .. سألت الفتيات الراقصات وهن يتخففن من ثيابهن ويمسحن العرق المتصبب .. عن حمام للسباحة يقضين فيه ساعة القيلولة .. ودلوهن على حمام فى الضواحى يقع على رابية مخضرة وتحيط به الأشجار العالية لتحرسه من العيون ..
وصحب الفتيات فى هذه الرحلة الخلوية " البرتو " زميلهن فى الفرقة ..
وبلغوا المكان فى الساعة الثالثة تماما .. واتجهت الفتيات توا إلى " الكابينه " ولم يكن معهن غير المايوهات البكينى .. فلبسنها فى الحال ..
وأخذن يتبخترن حول الحوض وكأنهن جنيات خرجن من البحر فى ساعة الأصيل ..
***
ولم يكن الحمام مزدحما بالرواد .. ولكن ظهور ثلاث فتيات شقراوات .. وبيضاوات فى المايوه البكينى .. زاد من حرارة الجو وألهب فيه النار ..
وعندما انزلقن إلى الماء فى دلال منيرفا وجمال فينوس تجمع حولهن الشبان وأخذوا فى مغازلتهن .. ومنهم من استعمل طريقة وحشية .. فصاحت روزالينا والماء يتقاطر فى حبات كالدر من فوق صدرها :
ـ البرتو ..
ـ سى ..
وكانت مرغريتا .. تغطس فلما نفضت عنها الماء صاحت مثل رفيقتها :
ـ البرتو ..
وفعلت مثلها .. ليزا ..
ولم يكن البرتو نزل إلى المغطس .. كان جالسا بملابس الحمام بجوار " الكابينه " التى خلعت فيها الفتيات ملابسهن .. صامتا يشرب زجاجة من عصير الليمون .. وفى يده سيجارة .. ينفض رمادها .. ولم يكن يتحرك أو يحادث أحدا أو يفعل أى شىء يلفت إليه الأنظار ..
ورغم ذلك فقد عرفه الجميع بعد وصوله بثلاث دقائق .. فقد كان اسمه يتردد على ألسنة الفتيات فى كل لحظة .. فالتى اصطدمت بشىء ما وهى غاطسة .. تصرخ بأعلى صوتها :
ـ البرتو
والتى ضايقها وهج الشمس .. تصيح :
ـ البرتو ..
والتى تحس بالعطش .. تنادى :
ـ البرتو ..
والتى تود أن تخرج من المغطس وتأخذ الحمام الشمسى على المرتبة النايلون تزعق :
ـ البرتو ..
وهكذا أصبح علم المكان ..
وكان بعض الشبان مازالوا يحومون حول النار .. لكن بعد أن سمعوا الفتيات الثلاث يصحن فى نفس واحد :
ـ البرتو ..
وعرفوا من هو البرتو .. ابتعدوا .. ومنهم من فكر فى أن يخرج من الحمام كلية اتقاء للشر .. فقد كان البرتو عملاقا .. عريض الصدر .. مفتول الساعد .. تتقصف عضلاته إذا استدار .. وإذا انحنى .. بجذعه ..
وكان يبدو للناظر أنه بطل من أبطال طروادة .. انسلخ عبر التاريخ أو أنه أحد احفاد شمشون ..
ومع أنه لم يحدث احتكاك أو اختبار لقوته إلى هذه اللحظة ولكن الجميع كانوا يخشون بأسه ..
***
وكان يقدم على الحمام كل ساعة رواد جدد .. فيؤخذون بجمال الفتيات ورشاقتهن ..
وكان البرتو .. قد نزل إلى الحوض .. ثم طلع ينفض الماء عن جسم هرقل .. وأخذت العيون تحدق فيه ولا تتحول عنه ..
وكان هناك مصور واحد قد دلف إلى المكان وأخذ يحرك العدسة تجاه الفتيات .. والتقط لهن أكثر من صورة .. وظل يطلب المزيد ويلاحقهن فى كل ركن ..
وكان يعلم بصلتهن بالبرتو .. ومع ذلك ظل يطاردهن .. والظاهر أن الآلة ليس ملكه .. وأنه لم يكن يبالى بما يصيب وجهه من ضربات ..
وكان هناك شاب ناحل يلبس بنطلون رعاة البقر .. وترك صدره عاريا .. وأخذ يدير فى يده سلسلة ذهبية .. وهو يسعل باستمرار .. وكان يراقب مرغريتا فى تحركاتها وانتهز فرصة انشغال البرتو عنها .. واقترب منها فى وجل .. وعرض عليها أن تقضى معه يومين فى عزبته على الرياح التوفيقى لترى الريف المصرى ..
ولم تفهم الفتاة كلمة واحدة من حديثه .. لأنها لا تعرف الفرنسية .. ولا الإنجليزية .. وطلبت منه أن يحادثها بالأسبانية أو الإيطالية أو يذهب إلى البرتو ..
فتركها وذهب إلى طاولة " البنج بونج " ..
***
ودخل من الباب شاب جديد وفد على المكان فى ساعة الأصيل .. وفى اللحظة التى استلقت فيها الفتيات فى الشمس مسترخيات على المراتب النايلون ..
فجلس على كرسى تحت الشمسية يدخن فى الغليون .. ويداعب ذقنه الصغيرة ..
ولما وقع نظره على روزالينا انتفض فهى متمناه التى ظل يبحث عنها من سنوات وفكر فى اللوحة العظيمة التى يمكن أن يصنعها بريشته لو أعطته هذه الفتاة نصف نهار من وقتها ..
لم ير مثل هذا الجمال قط من قبل .. ولم تقع عيناه على مثل هذه التقاطيع التى كأنما نحتها مثال يتأنى وهو يعمل ويفرغ فيها كل براعته ..
وانتظر حتى تحركت الفتاة من فوق المرتبة وطوت الفوطة التى كانت تحتها وألقتها على نحرها .. ثم مشت تتهادى إلى الكابينة .. وعادت منها .. وجلست على كرسى طويل فى الظل ومدت ساقيها .. وعيناها إلى الأشجار العالية التى تداعبها الريح الرخاء ..
وتقدم الرسام الفنان فى خجل إليها .. وأخذ فى محادثتها بما يشبه الهمس ولم تفهم روزالينا كلمة مما قال .. فرفعت إليه وجها باسما .. والسيجارة مسترخية بين أناملها الدقيقة .. وأفهمته بهزة من كتفيها أنها لم تفهم كلامه ..
فأعاد الحديث إليها بخليط من الألفاظ الإيطالية والفرنسية والألمانية ففهمت غرضه ومع أنها لم تشتغل قط كموديل ولكنها ابتهجت وظهر السرور على وجهها .. وقالت له فى دلال :
ـ تحدث فى هذا مع البرتو ..
وكان رشاد الرسام قد شاهد البرتو مذ دخل إلى المكان .. وأدرك بعد قليل أنه مرافق للفتيات .. ولم يعجبه الرجل كعملاق يبدو عليه التوحش ولكنه مع هذا لم ينفر منه ..
ولما كان غرضه من رسم اللوحة ساميا وفنيا خالصا .. وهو شىء عادى ومألوف بالنسبة للفنان .. فانه تقدم إلى البرتو دون خوف وإن كانت ملامح وجهه قد اكتست فى هذه الساعة بالخجل الطبيعى الذى يلازم الفنان عندما يتقدم إلى شخص لا يعرفه ..
وجلس إلى كرسى خال بجواره ثم وجد الفرصة سانحة للحديث .. فأخذ يحادثه .. عن معالم القاهرة التاريخية وعن تطورها الحديث ..
ولم يكن البرتو .. يفهم اللغة الفرنسية .. ولكنه كان ينصت إلى كلام رشاد ويعقب عليه دائما بلفظة :
ـ سى ..
وهو يهز رأسه ..
وأخيرا حدثه رشاد عن اللوحة التى يود أن يرسمها للفتاة ..
فقال البرتو على الفور دون أن يفهم شيئا ولكن مجرد جلوس شاب بجواره وحديثه عن الفتيات كان يحمل فى رأسه معنى واحدا :
ـ سى .. تستطيع أن تأتى فى الساعة التاسعة غدا .. إلى البنسيون وروزالينا بعشرة جنيهات .. ومرغريتا وليزا .. بسبعة .. فروزالينا كما ترى .. صغيرة ولها خد كالتفاح ..
وفوجىء رشاد بهذا العرض الذى لم يكن يتوقعه أبدا .. وغطس فى سيل من العرق وكان المشاهد له فى هذه اللحظة يتصور أنه خارج فى التو من المغطس ..


=====================
نشرت القصة فى مجلة نادى القصة بالعدد 3 فى شهر يونية 1968 وأعيد نشرها فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971
=======================
  








القاتل

فى مطلع الفجر ذهب زوجها إلى السوق .. ولكنه لم يعد حتى بعد أن غربت الشمس ..
وقفت تتطلع من طاقة البيت العلوية إلى المزارع وإلى السكة التى اعتاد أن يرجع منها كلما خرج إلى الحقل أو ذهب لبعض شأنه ..
وقفت ساكنة وقد ركزت بصرها على بناية صغيرة هناك ظلت بادية فى الغسق ..
كان البيت الذى تسكنه كوخا من الطوب اللبن يرتفع عن مستوى منازل الفلاحين فى القرية .. لأنه يقوم على ربوة صغيرة ..
ومن سطحه كانت ترى المحطة على مبعدة ثلاثة فراسخ .. كما تشاهد من خلفها النيل .. ومن أمامها ترعة الابراهيمية بمياهها الساكنة ..
وأينما يتجه البصر ترى حقول الفول والبرسيم والقمح مزهرة وتسمع ريح الشتاء تهب بقوة وتحس بها تتجمع كلها فى بطن الوادى .. لتعوى هناك فى بستان كثيف من شجر النخيل يبدو أشد شىء جهامة ووحشة فى الظلمة ويقول عنه الفلاحون أنه مسكن الغيلان فى الليل ..
بدأ يساورها القلق لما سقط الليل وسمعت طلقات النار .. وأخذت الكلاب تنبح ..
ورأت " نجية " بومة تحط على النخلة .. فارتاعت وتناولت حجرا وقذفتها به ولكنها لم تذهب إلى بعيد .. حومت وعادت تحط على الجدار الشرقى ..
***
كان الجو .. معتما وقارس البرد .. ووقفت المرأة تتسمع إلى حفيف الريح .. كانت الريح تهب بشدة وتكنس فى دواماتها كل الأعشاب والطفيليات الصغيرة التى تنبت فى الحقول .. وتحمل الغبار فى زوابع إلى الجسر .. وتجعل أسلاك البرق وأعمدة التليفون تهتز وتصفر فى المحطة ..
***
أخذت ترمى بصرها إلى بعيد .. وتتطلع من وراء المزارع إلى المحطة وإلى مصباحها الوحيد الذى أخذ يلتمع فى الظلمة .. ويشيع الطمأنينة فى نفسها بعد أن استبد بها القلق ..
كان يحدوها الأمل فى أن ينزلق من القطار ويبلغ البيت سالما .. لكنها لاحظت أن قطارات الركاب انقطع صفيرها .. والمحطة صامتة ..
وأن زوجها لا يستعمل القطار وهو ذاهب إلى السوق .. وربما لم يركب قطارا فى حياته ..
ودخل فى روعها أنه ربما وجد " البهائم " غالية جدا .. وركب السيارة إلى منفلوط ليقضى الليل هناك فى مأمن فى البندر ..
ولن يرجع وحده فى الليل وفى جيبه مائتان من الجنيهات أو فى يده مقود الجاموسه ..
وقد عملت بمشورته وكتمت خبر ذهابه لشراء الجاموسة عن جميع جيرانها من الفلاحين حتى لا يشيع الأمر ويصبح ما فى جيبه مطمعا للشياطين ..
***
اشتدت الظلمة ولفت كل شىء فى شملتها ..
وحاولت نجية أن تخترق ببصرها حجب الظلام .. ولكنها لم تر شيئا .. فعادت إلى الداخل وردت الباب .. ورقدت على الحرام متكورة وملاصقة للعتبة .. ولم تستطع خلال ساعة كاملة أن تغفو لحظة ..
وظلت تسمع نباح الكلاب وهزيم الريح .. ثم صفر قطار ..
***
وفكرت فى أن تذهب إلى جارهم " عليان " وتعلمه بالخبر وتحدثه عن قلقها ليخرج بسلاحه .. لملاقاة زوجها ..
ولكنها وجدت أن ذلك سيغضب زوجها غضبا شديدا .. وهى تعرف طباعه .. فردت خاطرها عن ذلك وجلست صامتة والقلق يمزق أعصابها ..
وسمعت خشخشة فى الباب .. ففتحته مذعورة .. فوجدته الكلب .. وودت بعد أن فتحت الباب لو ألقت بنظرها إلى ما يحيط بالبيت من الخارج .. فوقفت على رأس الطريق تتطلع إلى ما حولها .. وكان الجو قد اشتدت برودته .. وأشجار النخيل تخيم على القرية الغارقة فى لجة من الظلام فضمت يديها على صدرها ..
منذ زواجها وقد انقضت ست سنوات لم تمر عليها ليلة كهذه .. ليلة رهيبة صامتة .. صامتة صمتا أخرس وهى وحدها فى انتظار الرجل الذى قد لا يعود ..
عادت إلى عتبة الباب ثم خرجت ثلاث مرات فى أقل من دقيقة ..
وكان فى الخارج محراث قديم فجلست عليه .. جلسة متصلبة من البرد .. وغدت لا تحس به لأن عقلها وجسمها وكل جارحة فيها انصرفت إلى الرجل الذى ذهب فى الصباح .. وتود الآن أن تكون أول من يسمع خطواته ..
بدا كل ما حولها ساكنا .. سكون الموت .. حتى بيت جارهم عليان وهو على مبعدة فرسخ .. بدا مظلما ساكنا .. فلا نار ولا نور ولا حركة حتى من حيوان ..
ومن خلال الظلمة ومض فى فكرها أمل .. فصعدت إلى الرواق العلوى .. حيث يضع زوجها بندقيته .. فلم تجدها .. إذن أخذها معه .. أنه ما حمل سلاحه قط وهو ذاهب إلى السوق .. فهل كان يقدر رجوعه فى الليل .. وهل سيركب السيارة العمومية .. وهو يحمل بندقية غير مرخصة ويعرض نفسه للأخطار ..
زاد قلقها فهبطت من الرواق .. وفى العتمة الشاحبة .. لمحت شبحا .. يقبل على مهل ..
ووثب عليه الكلب وهو يقترب جدا من الكوخ فأخذ يزجره بطبع المروض لكل أنواع الحيوان ..
ومشت " نجية " لتخلص الغريب من الكلب .. فوجدته يظلع خفيفا .. والدم يلطخ كتفه .. فروعت .. وسألت :
ـ ما هذا الدم ..!!
ـ هبشنى كلبك السعران ..
ـ لا تراع ..
وسريعا .. أخذت تغسل الجرح بماء القدر البارد .. وحشته بالبن ..
وقالت وهى تتأمل الجرح ..
ـ ليس هذا عضة كلب ..
ـ وماذا يكون إذن ..؟
فصمتت ولم ترد .. ولاحظت أنه مسلح ببندقية قصيرة غطاها بملحفته .. وكان طويلا حاد البصر .. ولا يتجاوز عمره الثلاثين .. وفى رجليه نعل مضفر مما يلبسه " الجمالة " الذين يسوقون الجمال فى الأرض التى لا يرن عليها حافر ..
وكان جلبابه الأسمر .. عليه أثر من خوضه فى الحقول ..
ولاحظت عليه الهزال من أثر السير الطويل والدم الذى نزف منه .. فسألته :
ـ اتعشيت ..؟
وأسرعت تقدم له العشاء الذى أعدته لزوجها ..
وجلس حول الطبلية وهو لا يزال يحمل البندقية ..
فقالت نجية :
ـ ألا أريحك منها ..؟
ـ لا .. شكرا .. الناس جعلونى هكذا ..
ورأى ملابس زوجها معلقة على حبل فى المدخل ..
فسأل وهو يقضم الخبز :
ـ أهذا الجلباب لزوجك ..؟
ـ نعم ..
ـ وأين هو ..؟
ـ ذهب إلى سوق " بنى حسين " .. منذ الصباح ليشترى لنا جاموسة ..
ـ سوق بنى حسين .. البهائم غالية .. وعلى الأخص الجاموس ..
ـ ولكن الجاموسة لازمة للفلاح .. لبن وسمن .. وجبن .. ومن نتاجها .. يشترى الفدان .. وأنت ليس عندك جاموسة ..؟
ـ ولا نعجة ..؟
ـ وما الذى تعمله إذن ..؟
وحرك بندقيته وقال وهو يتطلع إلى النجوم :
ـ قتل والدى .. فى عز الظهر وأنا صغير .. ولم يشهد على القاتل رجل فى القرية .. ولما اشتد ساعدى انتقمت لأبى وقتلت قاتله .. ومن وقتها وأنا أحمل السلاح ..
ـ ألا تدع الأمر لله ..؟
ـ ذلك مشوار طويل ..
وظل يتحدث معها مليا .. إلى أن بدأ يحس عن يقين بأن عليه أن يذهب من هنا سريعا ..
ـ أذاهب ..؟
ـ أجل .. لابد من الرواح .. وإلا تطور الجرح ..
ـ مع السلامة .. سأمنع عنك الكلب ..
وكما جاء ذهب لم يتخذ الطريق المألوف ..
***
وبعد نصف الساعة من ذهاب الرجل الغريب .. رأت " نجية " شبح زوجها من بعيد .. فأسرعت إليه تتخطى الجداول والقنوات .. ورأته يمشى على مهل .. وقد نال منه الاعياء .. ولما اقتربت رأت دمه ينزف .. فصرخت ولكنه أسكتها بعنف .. إذ لم يكن يحب أن يتجمع على بابه الفلاحون وتحامل عليها حتى أدخلته الرواق وأخذت تغسل الجرح وتحشوه بالبن كما فعلت مع الرجل الغريب ..
وسألته بعد أن اطمأنت على حاله :
ـ وأين الجاموسة ..؟
ـ لم أشتر شيئا .. البهائم فى السوق أغلا من عندنا فى النجع ..
ـ لماذا تأخرت إذن ..؟
ـ عدت ماشيا .. لأن معى البندقية .. من العصر وأنا أسير .. وتربص لى رجل فى الظلام وربما رآنى فى السوق .. وتبعنى .. وأطلق علىّ النار .. كاد أن يقتلنى ولكننى انبطحت وراء المجراية .. وصوبت عليه ..
ـ وأصبته ..؟
ـ قطعا أصبته .. ولكن لم أعثر له على أثر .. بعد ذلك طواه الليل ..
أيقنت نجية أنه هو نفس الغريب الذى كان هنا وتعشى .. وكانت تود أن تحدث زوجها بخبره ولكنها خشيت اثارة غضبه .. فكتمته ..
ورأى عقب سيجاره على أرض القاعة ..
ـ هل جاء أحد ..؟
ـ عليان .. وكان يسأل عن السماد ..
وصمت الزوج .. وكانت آثار الرجل الآخر .. واضحة هناك فى الأرض الرملية ولكن الظلام كان يحجب الرؤية تماما ..



==========================
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم بالعدد 1094 بتاريخ 23/10/1965 وأعيد نشرها فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971
======================= 
    
    








زائر الليل

أعطانى صديقى أحمد مفتاح شقته وابتهجت لهذا .. فقد كنت أكره النزول فى الفنادق وما يشابهها وأبغى الراحة المطلقة فى هذه الأجازة القصيرة ..
وكانت الشقة تحمل رقم 71 وتقع فى الدور السابع من عمارة كبيرة بشارع النمر ومكونة من غرفتين جميلتين ولها شرفة تطل على شارع طلعت حرب المتألق .. وبها كل ما يطلبه الساكن من سخان فى الحمام إلى موقد فى المطبخ وثلاجة وغسالة .. ولها واجهة بحرية جعلتنى لا أحس بجو القاهرة الحار فى شهر يونيو ..
كما جعلتنى قليل السهر فى الخارج .. فكنت أجلس الساعات الطويلة مسترخيا استمع إلى الموسيقى الكلاسيكة وأتطلع من الشرفة إلى كل ما يحيط بى من جمال الليل وسحره ..
***
وذات ليلة .. وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة .. سمعت جرس الباب الخارجى يدق فتصورته جارى الذى يسكن فى الشقة رقم 72 وكان كهلا أعزب ويقيم وحده ويأتى أحيانا لزيارتى .. ومشيت نحو الباب وفتحته .. وبدت فى الضوء الشاحب سيدة على العتبة ..
وقرأت فى عينيها الاستغراب لما رأتنى ..
وسألتنى وهى لا تزال تتصور أنها أخطأت الباب :
ـ أهذه شقة الأستاذ أحمد ..؟
ـ أجل يا هانم ..
ـ وهل هو موجود ..؟
لقد سافر منذ أيام إلى الخارج يصحب والدته المريضة ..
وبدا عليها الارتباك الشديد .. وغاضت تعابير وجهها فى لحظة للقلق المتزايد ..
وقلت لما رأيت حالها :
ـ تفضلى .. أستريحى ..
وظلت واقفة فى مكانها مترددة فى الدخول ..
وقطعت عليها هذه الحيرة بأن تناولت حقيبتها ودخلت بها الشقة ..
ودخلت ورائى وجلست فى الردهة ساكنة لا تطرف .. وكان باب الشقة الخارجى لا يزال مفتوحا .. ولا أدرى لم تركته هكذا .. لعلى كنت أود أن أبعث فى نفسها الاطمئنان حتى تستريح إلى شخصى بالتدريج ..
وبعد حديث قصير دار بيننا تحركت وأغلقت باب الشقة كما كان ..
وعرفت السيدة علاقتى بأحمد وكيف أعطانى المفتاح .. قبل سفره .. وقالت لى أنها قادمة من الإسكندرية فى قطار الليل لتقضى أياما قليلة فى بعض شئونها الخاصة .. وأنها اعتادت أن تنزل فى هذه الشقة كلما جاءت إلى القاهرة لأن أحمد صديقها ..
وقلت لها عن طيب خاطر :
ـ يسرنى أن أترك لك الشقة فى هذه الأيام ..
ـ أنا لا أستطيع أن أنزل فيها وحدى ..
ـ لماذا .. سآتى لك بكل ما تحتاجينه ..؟
ـ ليست هذه هى المسألة .. وإنما أخاف أن أقيم فيها وحدى .. فلم أعتد على هذا ..
ـ أنا تحت تصرفك فانظرى ما تأمرين ..
ـ لا تشغل بالك .. وسأتدبر الأمر بعد أن أستريح قليلا فلى صديقة فى الدقى وقد أذهب إليها ..
وصمت .. لم أجد من اللياقة أن أعلق على قولها أو أن أعرض عليها المبيت معى ونحن فى أول لقاء ..
ودخلت المطبخ .. وقدمت لها كوبا من عصير الليمون .. صنعته بيدى وحرصت على أن يكون متقنا للغاية ..
وسألتها .. وأنا أرقب شفتيها بعد أن تناولت منه رشفة :
ـ هل السكر مناسب ..؟
ـ جدا .. أنا لا أستطيع أن أصنع مثله ..
وابتسمت .. وقالت وهى تدير عينيها فى المكان ..
ـ لقد جاء أحمد بأشياء جديدة فى الشقة ..
ـ يبدو هذا .. والشقة جميلة وعلوها يجعلها ممتعة فى ليالى الصيف .. الهواء رطب ومنعش ..
وأخذنا نتحدث فى كل الشئون .. حتى انقضت ساعة وهى مسترخية على الكرسى الطويل .. ورأيتها تنهض فجأة .. فارتجف قلبى .. ولكنها تناولت حقيبتها .. ودخلت بها غرفة النوم ..
فأدركت أنها غيرت رأيها وقررت البقاء ..
***
ولاحظت من تحركاتها فى الشقة أنها تعرف كل ركن فيها .. فدخلت المطبخ ثم الحمام .. ورفعت حصيرة النافذة لتدخل الهواء البحرى .. وسوت زهرية على الطاولة ..
كل ذلك فى حركات سريعة نشطة .. مما يدل على أنها لم تتعب من السفر ..
وأغلقت باب الغرفة .. فأدركت أنها تغير ملابسها .. وجلست أدخن .. حتى سمعت الباب يفتح وخرجت ترتدى ملابس بسيطة .. فى غاية الأناقة ..
بلوزة بيضاء خفيفة على جونلة زرقاء .. ومن غير جورب وفى قدميها حذاء سنجابى مكشوف .. وسوت شعرها قليلا .. وتركت كل شىء بعد ذلك بشكله الطبيعى .. وكل ما بقى من أثر التزين هو أحمر خفيف على الشفتين .. وكان يرف على الخدين شحوب طفيف لعله .. من ظل الفستان الأسود الذى كانت ترتديه منذ لحظات ولعله من علة فى المرارة .. ولكن فى العينين السوداوين بريق يفيض بالحيوية والشباب ..
ـ لا أظنك تعشيت .. فهل تسمحين بأن نتعشى معا ..؟
ـ أين ..؟
ـ هنا ..
ـ وهل عندك طعام ..؟
قالت هذا فى استغراب ..
ـ أجل عندى .. وعملى فى أسوان عودنى على أن أخزن أشياء كثيرة فى الثلاجة وأرجو أن تجدى فيها ما تحبين ..
ونهضت .. وتحركت سريعا كعادتها .. وفتحت الثلاجة ثم أغلقتها وأخذت على التو تعد الطعام على المائدة الصغيرة فى المطبخ ..
***
وجلسنا متقابلين بعد أن وضعت بيدها الصحون والأكواب .. وكنت فى خلال الأكل .. أنظر كالمأخوذ إلى عينيها .. وشفتيها .. وحركة يديها .. وأناملها الدقيقة .. وهى تتناول هذا وتضع ذاك ..
وبعد الطعام جلسنا نستمع إلى الموسيقى وكانت تحب أن تسمع بعض " البشارف " التركية وكانت فى درج تعرف مكانه فأخرجت الأشرطة وأخذنا نستمع إليها ..
وعرفتها بأننى أعمل فى أسوان وجئت فى أجازة لمدة عشرة أيام انقضى منها ستة وأن أحمد من أعز أصدقائى منذ الطفولة ..
وسألت :
ـ هل أسوان جميلة حقا ..؟
ـ جدا .. وقد خصتها الطبيعة بمناظر ساحرة .. لا يوجد نظيرها فى مدينة مصرية أخرى ..
ـ إلى هذا الحد ..
ـ أجل .. فى الواقع .. ألم تذهبى إلى هناك ..
ـ أبدا .. مع الأسف ..
ـ لابد أن تذهبى لترى السد ..
ـ أفكر فى هذا .. فى الشتاء المقبل .. ولا بد أن أزورك فى أسوان .. ولا تنسى أن تترك لى عنوانك ..
 ـ سأكتبه الآن ..
وكتبت اسمى بالكامل وعنوانى بوضوح فى ورقة فتناولتها .. ووضعتها فى حقيبتها الصغيرة .. وهى تضحك ..
وبحركة بارعة عرفت اسمى وصنعتى ..
***
ولما جاء وقت النوم أبدت رغبتها أن تنام على حشية فى الغرفة الأخرى حتى لا أغير فراشى من أجلها ولكننى رفضت هذا بالحاح فانسابت إلى غرفة النوم بعد أن حيتنى برقة ..
***
وجلست أدخن فى الشرفة وأنوار القاهرة تتلألأ أمامى وقد جاوز الليل منتصفه ..
كانت القاهرة الحالمة .. توحى فى هذه الساعة من الليل بالاسترخاء والمتعة .. وكانت هناك سيدة فى الثلاثين من عمرها .. على قيد خطوات منى جميلة ومثيرة .. وفى عينيها تطل الرغبة .. ولكن رعاية للصديق الذى أنزلنى فى بيته لم أفكر فى أن ألمس عشيقته .. كانت عندى لها حرمة الزوجة ..
ومع ذلك فانى أعترف كمخلوق بشرى أن صراعا رهيبا ظل يشدنى إليها ويمنعنى عنها وأنا جالس وحدى حتى اختلط عقلى وتمزق .. كنت اتلفت فأراها هناك على بعد خطوات منى .. ساقتها الأقدار لى .. دون جهد ما .. وقد تكون لها نفس الرغبة التى عندى الساعة .. ومن الحماقة أن أدع هذه الفرصة تفلت منى .. وقد جئت إلى القاهرة لأتصل بالنساء .. كأول شىء أفعله .. لأننى محروم منهن فى أسوان ..
وفى خلال هذه الدوامة التى عصفت بكيانى .. لمحتها خارجة بقميص النوم من الحمام .. وتبعت خطواتها .. الخفيفة .. فى الضوء الشاحب .. لم تفتح نور الردهة الصغيرة المفضية إلى الحمام .. ومرت سانحة فى الظلام عندما رأت أننى لا أزال صاحيا وجالسا فى نفس المكان الذى تركتنى فيه .. منذ ساعة ..
ولكن وهى راجعة من الحمام .. اقتربت منى وارتكزت خلف ضلفة باب الشرفة المفتوح وقالت بدلال وعلى وجهها تعابير المرح :
ـ ألا تزال صاحيا ..؟
ـ الجو لطيف فى الواقع .. والمنظر ساحر ..
ـ يعنى لأول مرة تراه ..؟
ـ فى الواقع لأول مرة أراه فى هذا الجمال الباهر ..
ـ مهندس وشاعر .. كفاية شاعرية وهيا إلى فراشك .. لأنك ستنهض مبكرا وتعد لنا الافطار ..
وظهر لون اللهب المتوهج من خلال حمرة وجنتيها ..
وقلت على الفور مبتسما وأنا أرقب هذا الوهج :
ـ حاضر .. سأنهض توا ..
وثنت وركها وهى تقول هذا الكلام .. ودارت نصف دورة .. وهى لاتزال ممسكة بقبضة باب الشرفة فرأيت خطوط جسمها الناصع البياض تحت قميص الدانتلا الأسود .. والتهبت حواسى .. وغشى بصرى مثل الضباب ..
وظللت هكذا لحظات سادرا وكنت أسمع أنفاسها وأشتم العطر الذى تعطرت به قبل النوم ..
ثم انسحبت فى خفة ولين .. وقمت بعدها .. لأنام فى المكان الذى اخترته ..
***
ولكن مرت ساعة كاملة وأنا ممدد على الحشية أتطلع إلى سقف الحجرة دون أن يغمض لى جفن .. وكانت الصور تمر فى ذهنى كما تمر فى شاشة السينما .. متتابعة وبطيئة وكنت قد تركت النور فى الطرقة مضاء .. على احتمال أنها قد تنهض وتذهب إلى دورة المياه ..
وأحسست وأنا راقد بأن النور انطفأ فجأة وخيم الظلام .. على أثره سمعت صوتها .. فأدركت أنها لاتزال صاحية مثلى ..
ـ غارة ..
ـ لا .. التيار انقطع .. ويحدث هذا فى القاهرة كثيرا ..
ـ يخيل إلىّ أنها غارة .. أننى خائفة .. أرجوك ..
وأحسست بحركتها وهى تتحرك فى الظلام لتقترب من مكانى فنهضت .. والتقيت بها فى الردهة .. الفاصلة بين الغرفتين وأمسكت " فوزية " بذراعى بمجرد تلامسنا واحساسها بقربى .. ثم شعرت بصدرها كله يرتمى على صدرى .. فتلقيتها واحتضنتها بعنف وبحثت شفتاى عن شفتيها .. ووجدتهما حارتين ممزوجتين برضاب كالشهد .. ورحنا فى اعصار القبلة المحمومة ونحن وقوف .. وقد جعلنا الظلام وعنف الرغبة التى أججت عاطفتينا .. لا نحس بما يجرى فى الكون كله ..
ثم استفقنا فجأة على قرع باليد على زجاج الباب الخارجى .. قرع يتخبط .. ذكرنى باليد العنيفة التى كانت تقرع بابى فى أخريات الليل أيام الاحتلال الإنجليزى ..
فتركت ذراعى " فوزية " بلطف .. وتحركت نحو الباب .. وسألت من الطارق .. وأنا أفتح الشراعة الزجاجية .. ولما سمعت صوت جارى العجوز فتحت الباب على الفور ..
وأدخلته .. وقال لى أنه أحس بتعب شديد .. ولم يجد معينا له فى هذا الظلام وهذا الليل سواى .. وأحسست من صوته الضعيف أنه يلفظ أنفاسه .. فأرحته على الكرسى الطويل ..
وكان إلى هذه اللحظة .. لم يشعر بوجود " فوزية " .. ولما شعر بوجودها .. لم يستغرب ..
وأحسست بعد جس نبضه أن قلبه فى حالة هبوط شديد .. لم يكن عندى ولا عند صديقى " أحمد " أى دواء أو مقويات للقلب .. فاكتفينا بأن صنعنا له على ضوء البوتاجاز وناره قهوة خفيفة ..
وعاد التيار وهو يرتشف القهوة .. وأخذ يتصبب عرقا وجسمه يبرد .. فنقلناه أنا و " فوزية " إلى الفراش .. وأخذت هى تدلكه .. ولم يكن هناك تليفون عند أحد من الجيران .. حتى نستعين به على طلب طبيب .. فرأيت أن أرتدى ملابسى على عجل .. وأذهب إلى فندق قريب استعمل تليفونه أو أسرع إلى مركز الاسعاف بالتاكسى وهو ليس ببعيد ..
ولكن قبل أن أخرج من الباب أمسكت " فوزية " بذراعى وهى مذعورة لألقى عليه نظرة .. ولما أبصرت بياض عينيه .. أدركت كل شىء .. فوجمت ..
وقالت فوزية بصوت يرتعش :
ـ أرجعه .. إلى شقته .. أرجوك ..
ولم نقو أنا وهى على حمله من الفراش .. تضاعف وزنه بعد أن خرجت روحه .. ووضعناه على الكرسى الطويل وسحبناه إلى شقته دون أن نحدث أدنى جلبة .. وهناك وضعناه فى سريره .. بعد أن نال منا الجهد .. وتصببنا عرقا ..
وكنا على وشك أن نعود على الفور إلى شقتنا .. لولا أن " فوزية " بفضول الأنثى لمحت المفتاح فى الدولاب .. ففتحته ونظرت بداخله .. فوجدت أشياء كثيرة يعتز بها .. وضعها مبعثرة .. وبجانب هذه الأشياء سلسلة بها مجموعة من المفاتيح .. فأخذت تعالج فتح الأدراج كلها .. ووجدت فى درج منها ما جعلها تنادينى فى ذعر ..
ولما نظرت حيث تنظر فى ذهول .. رأيت قطعا ذهبية كثيرة موضوعة فى صندوق من الأبنوس ..
وقالت " فوزية " فى انفعال :
ـ أنظر .. كل هذا .. وهو وحيد ..
ـ أعرف أنه وحيد .. ولا أحد له على الاطلاق ..
ـ ربما جاء إلينا المسكين ليحدثنا عن هذا الذهب ..
ـ ربما .. ولكن منعه زائر الليل ..
ـ زائر الليل ..؟
أجل زائر الليل .. الذى يأتى عادة قبل الفجر .. ليحرم الناس من بهجة الحياة ..
وظلت فوزية تنظر إلى بريق الذهب وقد تجمدت ملامحها ..
فقلت لها :
ـ هيا يا فوزية ..
ـ وتترك هذا كله .. يا حسن ..
ـ وهل هو من حقنا ..
ـ أجل .. ولقد كان المسكين يود أن يقول لنا شيئا .. ولكنه لم يستطع .. لمرضه الشديد .. قرأت هذا فى عينيه ..
ولقد استطاع الشيطان بهواجسه أن يمزق عقلى لحظات حتى كدت أقنع بقولها ولكننى استطعت أخيرا أن أدخل النور إلى عقلها وعقلى .. وأغلقنا الدولاب بكل ما فيه كما كان .. وخرجنا من الشقة فى هدوء ..
***
ودخلنا شقتنا .. وجلسنا متقابلين فى البهو الصغير .. دون أن نفتح النور .. ودون أن ننطق بكلمة ..
لقد تمزق شىء فى داخلنا فى لحظة رهيبة .. تمزق بسكين جامدة .. فجلسنا صامتين لا ننبس حتى طلع النهار ..
لقد توقف بموت الرجل المسكين نهر الحياة الذى كان يجرى فى كلينا .. وحولنا بريق ذهبه الذى تركناه طواعية إلى تماثيل جامدة .. فجلسنا صامتين لا ننبس حتى طلع النهار ..
***
وقبل الغروب لمحنا عربة الموتى السوداء تدخل الشارع .. ولم يركب معه وهى ذاهبة به إلى المقابر غير البواب ..
======================= 
نشرت القصة فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971
========================    
  
 






الدكان

يقع دكان " أرتين " لمسح الأحذية على الناصية فى شارع كبير وفى حى البنوك والمحلات التجارية الكبرى وفى متناول الأرجل التى تتحرك فى الشوارع الرئيسية المجاورة والتى هى بمثابة شريان تجارى متدفق للعاصمة ..
وقد ورث هذه الحرفة عن أبيه وجده وأتقنها وبرع فيها ..
وجعل من داخل المحل قسما لإصلاح الأحذية خصه بالعمال المهرة فأقبل عليه " الزبائن " من كل مكان حتى من ضواحى القاهرة البعيدة ..
وأصبح هذا القسم هو كنز المحل ومنه يتدفق المال بغير حساب .. ويعمل فيه أربعة من الصناع لا ترى أيديهم ولا وجوههم فقد حجبهم صاحب الدكان عن العيون ووضعهم فى " الصندرة " ..
ويقوم بمسح الأحذية ثلاثة من العمال تجدهم دوما مشغولين بالعمل وأيديهم تتحرك كاللوالب ..
وقد تقرأ على وجوههم التعب والسآمة وترى العرق المتفصد ..
ولكن ندر منهم من ترى على وجهه الاحساس بمذلة العمل الذى يزاوله .. مادام يسد به رمقه ويكفيه ذل السؤال ..
والداخل فى المحل تطالعه فوضى عجيبة فى الأرفف والأركان .. وكل شىء يعلوه التراب وخيوط العناكب .. والأحذية مكدسة بعضها فوق بعض بغير ترتيب ولا نظام .. ويختلط منها القادم حديثا " للاصلاح " بالذى أصلح فعلا وأحذية الرجال موضوعة مع أحذية السيدات .. ولكنك تجد فى جوف كل حذاء ورقة ملصقة بالصمغ يدون فيها بالحروف اللاتينية المبلغ المطلوب من الزبون ..
ونادرا ما تسقط ورقة من هذه الأوراق أو تضيع .. كان يثبتها بشكل عجيب ..
وكان يبيع الأشياء المتعلقة بالحذاء .. وتجدها موضوعة فى نفس الفوضى .. فعلبة الورنيش بجانب رباط الحذاء .. وفوق هذا " اللبيسة " وكوتش النعل مع كوتش الكعب .. والحديد الصغير مع الكبير الذى يسمر فى النعال ..
ورغم هذه الفوضى فزبائنه لا يحصى عددهم كأن هذه الأشياء هى المجلبة للرزق ..
ويفتح المحل أبوابه من الثامنة صباحا ..
وأول من يقدم من العمال فى الصباح هو " يعقوبيان " أقدم العمال ..
وهو الأرمنى الوحيد الذى يعمل فى قسم مسح الأحذية .. ويعمل فيه منذ وجد المحل فى هذا المكان ..
يعمل أكثر من خمس وأربعين سنة فى دكان واحد .. وهو يحنى رأسه على الأحذية من بكرة الصباح .. دون كلل أو احساس بالتعب .. تبلد جسمه على هذا الوضع واتخذ هذا الطابع .. وانحنى جذعه بعدها وما انتصبت له قامة قط ..
***
والأرمن يعمرون ولا تدرى السبب فى تعميرهم أيرجع ذلك لعوامل الوراثة .. أم لأنهم يبلعون الثوم على الريق ويشربون اللبن قبل النوم ..
أو لأنهم يحترفون صناعات يزاولونها وهم جلوس .. صناعات دقيقة يحتكرونها ويبرعون فيها .. وندر من ينافسهم فيها ..
ويتخذون معظم عمالهم من الأرمن أيضا ليحتفظوا لأنفسهم بسر الصنعة والتفوق فيها ..
***
وكان " يعقوبيان " يعمل فى الدكان كالثور المعلق فى الطاحونة يدور معصوب العينين .. ويدور دون احساس بالتعب ..
ولعله كان يحس بالتعب فى الساعة التى يرفع فيها رأسه ..
ولعله كان لا يستطيب الساعة المعدة للغداء ولا يطيق أن يبرح مقعده الواطى لأنه كان يتناول طعامه وهو جالس على نفس المقعد فى الدكان ..
وزبائنه ألوان مختلفة من الناس ومعظمهم يدفع له البقشيش ويضاعفه له عندما يراه فى هذه الشيخوخة ..
كهل فى الثمانين يقوم بهذا العمل .. كانت قلوب كثير من الزبائن تتألم وتجزل له العطاء ..
وبعضهم كان يود أن يتدخل ويسأل صاحب الدكان كيف تشغل رجلا فى هذه السن وتعذبه ..؟ ولكنه كان يخشى الرد .. فربما أجاب بوقاحة وهل اشتكى لك ..؟
وظل يعقوبيان يعمل .. وظل الدكان يجمع خليطا من الزبائن مصريين وأجانب وكثيرا ما تقع عين الزبون وهو جالس على الكرسى العالى ليمسح حذاءه .. على سيدة جالسه فوق مقعد فى ركن من الدكان عارية القدمين وتكون قد خلعت حذاءها وأعطته للعامل ليصلحه سريعا فقد انخلع الكعب وهى ذاهبة إلى المتجر أو إلى الخياطة .. تنتظر إصلاح الكعب مستسلمة راضية .. وهى فى هذا الوضع المثير .. وأول شىء يقع عليه بصرها فى الدكان هو " يعقوبيان " محنى الظهر .. يحرك يديه على الحذاء فى حركة رتيبة كأنهما انقلبتا إلى محرك صغير دائر دوما ولا يتوقف لحظة .. وكان مظهره يثير الشفقة والألم ..
وكان " يعقوبيان " محبوبا من كل من يعاشره .. فهو لين الطباع ودود .. بشوش .. وسحنته المميزة تبدو واضحة فى الصف الذى يمسح الأحذية .. الجبهة العريضة والوجه الطويل المسحوب .. والذقن المدببة والأنف الطويل .. والعينان الخضراوان الحادتا النظر رغم الشيخوخة ..
ولكثرة لصوقه بالدكان ندر من يعرف أحواله المعيشية فى خارجه .. وهل هو متزوج وله أسرة أم يعيش وحيدا ..؟
كما لا يدرى انسان أين مضجعه .. ولكنهم كانوا يرونه يتجه بعد اغلاق الدكان إلى ناحية الفوالة بعابدين .. ونادرا ما يغير طريقه ..
 وكالملايين الذين يعيشون فى القاهرة الكبرى عاش مثلهم فى دوامتها .. فى صخبها وضجيجها ونومها وصحوها عاش كما يعيش كل انسان هادىء مستكين ..
***
ولكن حدث شىء رهيب فى حياته .. شىء رهيب طير صوابه وجعل الجدول الرقراق الصافى ينقلب إلى ماء عكر ..
فقد جاء فى الصباح إلى الدكان كعادته فوجده مغلقا ..
وتصور مع بقية العمال أن صاحب المحل مريض .. أو نزل به مكروه .. فذهب أحدهم إلى بيته ليسأل عنه فلم يجده .. فأخبر زملاءه .. وعادوا جميعا إلى بيوتهم وفى ظنهم أنه سافر إلى الإسكندرية أو غيرها لشىء يتعلق بالعمل وسيعود فى اليوم التالى ..
ولكنه لم يعد فى اليوم التالى ولا الثالث .. وظل الدكان مغلقا ..
وفى كل صباح كان يأتى العمال جميعا ويظلون لاصقين بالباب المغلق حتى الظهر .. ثم يعودون إلى بيوتهم وفى قلوبهم المرارة ..
وبعد أسبوع علموا أن صاحب المحل هرب إلى الخارج بعد أن هرب كل أمواله ..
وكان وقع الحادث عليهم كالصاعقة وهى تنقض على رؤوسهم ..
وكان أكثرهم تأثرا بالحادث " يعقوبيان " فمن الذى يرضى بأن يشغل عجوزا مثله ..؟ وكيف يعيش ..؟
ولم يكن يصدق ما حدث .. فما الذى يدعو الخواجه " أرتين " لأن يفعل ذلك .. وأخذ أول الأمر يدافع عن صاحب الدكان ثم أصبح أكثر العمال سخطا عليه ولعنة له ..
فلم ينذرهم ولم يعط أى عامل منهم قرشا واحدا عن كده وتعبه طوال هذه السنين .. لقد خانهم بنذالة تجل عن الوصف ..
***
وظل يعقوبيان يأتى إلى الدكان المغلق كل صباح كأنه غير مصدق لما حدث .. ثم يدور فى الشوارع متخذا خطا مرسوما .. ويحكى لكل من يقابله من الزبائن فعلة صاحب المحل النكراء .. وكيف خانهم بنذالة ..
وكثير منهم كان يشفق على الرجل العجوز ويخرج له ورقة بخمسة قروش أو عشرة ..
***
وظل " يعقوبيان " على شكه فى مصير صاحب المحل حتى وجد النجارين ذات يوم يرفعون الباب ويأخذون فى خلع الأرفف والأخشاب ويقيمون ستارا من الخشب يحجب الدكان عن أعين المارة ..
وعلم أن تاجرا جديدا أخذ الدكان وسيبيع فيه الخردوات ..
وجن جنون " يعقوبيان " وأخذ يطوف بالطرقات وهو يهذى ويروى ما حدث وقد تقلصت كل عضلات وجهه وبرزت عيناه ..
***
ومرت أيام انقطع فيها عن الدوران .. ثم رآه الناس فى صباح يوم يمشى وهو متهلل الوجه وقد غير من حديثه .. فلم يكن يشكو من صاحب الدكان الذى غدر بهم وإنما كان يتحدث بسرور عن شىء آخر .. يتحدث عن رسالة وصلته من ابنه " هاجوب " يدعوه فيها إلى السفر إليه فى كندا ..
وكان يظهر الرسالة لكل من يقابله من زبائنه القدامى وفى قلبه فرحة .. كان يمسك الرسالة بيده وعليها رسم البريد الجوى ويعرضها على الناس حتى تهرى الظرف وذهب المداد من عرق يديه ..
***
وفى صباح يوم من أيام الخريف وجدوه جالسا بجانب دكانه القديم قبل أن يفتح أبوابه وفى يده نفس الرسالة ..
وقد حسبوه أول الأمر نائما .. ثم عرفوا كل شىء عندما نظروا إلى عينيه .. وحاولوا نزع الرسالة من يده .. وكان وجهه يتجه إلى ناحية الدكان كأنه ينتظر فتحه ..
========================
نشرت القصة فى مجلة الهلال بالعدد 8 فى شهر أغسطس سنة 1969 وأعيد نشرها فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971
======================
  


الحلم

نزل إبراهيم من القطار قبل الغروب بساعة واستقل سيارة أجرة إلى قريته وكان قد تأخر يومين عن اليوم الذى حدده لوصوله بسبب الحجز فى البواخر ..
ولذلك لم يكن يتوقع وجود أحد فى انتظاره على المحطة .. فركب السيارة وحده وسارت به متمهلة على الجسر المترب ..
وبدت له الزراعات الشتوية على جانبى الطريق كما ألفها فى طفولته وصباه قبل أن يسافرإلى لندن ليدرس الطب منذ عشر سنوات ..
وكان قد استقر فى لندن بعد تخرجه واشتغل فى أحد مستشفياتها وتزوج من إنجليزية واستوطن الحياة هناك ورضى بها ..
ولكنه اضطر أن يعود الآن إلى موطنه بعد وفاة والده لأنه الابن الوحيد .. وعاد وهو يحمل بين جنبيه حنينا ممزوجا بالخوف ..
وأخذت السيارة تقترب من نخيل القرية المخيم ورفعت إلى ذهنه صورة الشيخ " عبد التواب " وكيل والده والمدبر لشئونه .. الرجل العجوز الذى خدمهم باخلاص وأمانة منذ أربعين سنة .. ولولاه ما سافر إلى الخارج لأن والده كان يعارض بشدة ..
وسر وهو يقترب من البيوت .. لأنه وجد بناية جديدة بيضاء فى خارج البلدة .. وحدة مجمعة .. ومدرسة لها ساحة كبيرة .. وحظيرة نموذجية لتربية الأبقار ..
***
وكان بيتهم صامتا .. ومغلق النوافذ إلا من نافذة مفتوحة فى الدور العلوى ..
وسأل عن الشيخ " عبد التواب " فعرف أنه أخذ سيارتهم الوحيدة وذهب إلى المنيا لبعض الشئون ..
ودخل إبراهيم البيت الصامت بعد وفاة أبيه وبعد غيبة طويلة .. عاد إلى البيت القديم .. إلى غرفه المشمسه الفسيحة .. وقد علقت وفرشت على جدرانه وأرضه السجاجيد .. وازدحم بالأثاث القديم الطراز .. طنافس وأرائك .. وكراسى مذهبة مطعمة بالصدف ..
واستقبلوه بالبكاء والفرح .. وسلم على بنات عمه توفيق .. وقبل يد عمته خديجة .. ورأى الخادمتين .. زكية .. ونفيسة .. كما تركهما منذ عشر سنوات .. جميلتين بسامتين .. وفى نفس القوام .. وإن كانت نفيسه قد سمنت قليلا ..
وأخذت عمته تقص عليه أحوالهم .. وكيف كان الوالد يتوق لرؤيته قبل موته وظل يهذى باسمه وهو فى رقدة الحمى ..
ودخل الشيخ " عبد التواب " البيت وهى تتحدث .. وعانق إبراهيم .. ورحب .. وقدم أقرباؤه فسلموا .. ثم نزلوا إلى المضيفة .. لاستقبال أهل القرية الذين سروا لمقدمه وجاءوا مسلمين ومعزين ..
وانصرفوا قبل منتصف الليل .. وصعد إبراهيم وابن عمه حسين .. وابن خالته عبد الحميد والشيخ عبد التواب إلى الطابق الثانى ليتعشوا ووجد البيت كله ساهرا من أجله ..
وتعشوا على طريقتهم .. الطريقة التى نسيها فى لندن .. عملية غسل الأيدى قبل وجبة الطعام بصب الماء الساخن من الابريق النحاسى ..
فغسلوا أيديهم بصابون نابلسى أبيض .. ثم جلسوا إلى المائدة ..
كانوا يقطعون الخبز " المرحرح " بأيديهم .. ويغمسونه فى أطباق الخضار .. وأكلوا على مهل ..
وكان الشيخ عبد التواب يقسم لحم الضأن والديوك الرومية .. بيديه لهم ..
وكانت زكية الخادمة هى التى تضع الأطباق وترفعها .. ونفيسة مع الستات فى المطبخ ..
ثم دخلت نفيسة أخيرا تحمل صينية الحلوى .. ورمقها إبراهيم ولاحظ تدرج خديها كلما وقع عليها بصره .. وكانت ترتدى ثوبا طويلا أزرق وتعصب رأسها بمنديل .. وبدا شعرها أسود .. متموجا جميلا من خلال المنديل .. وبدت عيناها أكثر بريقا وصفاء مما ألفهما قبل أن يسافر .. وجسمها اللدن أكثر استدارة واكتنازا .. وثقلت حركتها طويلا ..
وبعد العشاء أخذوا يدخنون حول المائدة ثم انصرف حسين وعبد الحميد والشيخ عبد التواب وحيا إبراهيم الأسرة .. وذهب إلى الفراش ..
وظل فى فراشه ساهرا وصورة نفيسة لا تبارح خياله .. وشعر بنبض فى جسمه وعرف أن الذكريات التى باعد بينها الزمن عادت إليه .. وبعنف هذه المرة .. وبدت الصورة تأتى إلى ذاكرته وتحتل مكانها ..
كان الليل باردا وساكنا ..
***
وفى الصباح .. خرج مع الشيخ عبد التواب إلى " الطاحونة " ثم أخذا يطوفان بالحقول .. وشاهد مجموعة كبيرة من النباتات قصب .. وقمح .. وحلبة .. وبرسيم .. وكرنب .. وجزر .. ولفت .. وطماطم .. كل ما ينبت فى الشتاء ..
وأخذ وكيل أرضهم يحدثه .. كانت الأرض تعيش فى عقل الشيخ عبد التواب .. فهو يعرف عمر كل نبات .. وسارا صامتين إلى أن وصلا إلى أطراف المزرعة .. وأخذ الزرع يتكاثف ليحميها من البرد .. وأعاصير الشتاء .. تلك كانت دائما طريقة الشيخ عبد التواب أن يطوق مزارع أبيه .. بهذا السياج من الأشجار الكثيفة ليحميها فى الشتاء من البرد .. وفى الصيف من حر الهجير .. وكان الجو دائما جميلا والشمس مشرقة .. والريح يمايل الزراعات فى لين ..
وقبل الظهر جلسا يستريحان بجانب الترعة فى مكان اعتاد أن يصلى فيه الفلاحون .. مكان صغير فرشوه بالحصير وطوقوه بالطين وجعلوا سلمه الحجرى ينزل إلى ترعة الابراهيمية ..
وأحس ابراهيم بحرارة الشمس ودفئها فى الأسبوع الأول من مارس .. وبالأشجار حوله تتمايل مع الريح الخفيفة وبالزرع النضير تتفتح براعمه للشمس والهواء ..
ونظر إلى زراعات الجزر والخس والحلبة .. وأحس بالحنين إلى أيام الطفولة .. أيام كان يقطف الحلبة الندية من الغيط ويلتذ بأكلها طازجة قبل أن تقطع وتذبل من لمس الأيدى .. وفهم الشيخ عبد التواب رغبته دون أن ينطق بها ..
ونادى فى الحال أحد الفلاحين ليأتى ببعض الحلبة والجزر والخس ..
وجاء صبى فى العاشرة يحمل هذه الأشياء بعد أن غسلها فى الترعة ..
وكان وسيما نظيف الثوب .. فسأل إبراهيم :
ـ ابن من هذا يا شيخ عبد التواب ..؟
ـ ابن نفيسة ..
ـ نفيسة .. تزوجت ..؟
ـ بعد سفرك بثلاثة شهور .. وأنا الذى زوجتها لـ عبد اللطيف ..
ـ لماذا .. لقد كانت صغيرة ..؟
ـ والدك رحمه الله رأى ذلك .. والبنات البالغات لا تقعد فى الفلاحين ..
وكان وجه عبد التواب جامدا ولا يعبر عن شىء .. ولم يستطع إبراهيم أن يفهم من هذه الكلمات شيئا ولكن أربكته .. وكان يعرف طبع الرجل جيدا .. فهو يملك زمام نفسه .. ولا يخرج من فيه لفظة تجرح شعور أحد ..
ولكن هدوء الرجل جعل إبراهيم يطيل التفكير .. وبعد الغداء اضطجع فى حجرته يفكر .. لقد أحب نفيسة منذ سنوات وقبل أن يسافر إلى الخارج .. وكان حبه لها جارفا آخذا بشغاف قلبه .. وكانت الفتاة تبادله الحب .. كان فى العشرين من عمره وكانت تصغره بثلاث سنوات ..
وأسلمته نفسها وسافر بعدها بشهر .. أيمكن أن يكون هذا الولد ابنه .. والشيخ عبد التواب يعرف هذا يقينا ولكنه لا يريد أن يفصح ولا حتى أن يشير تلميحا .. لأنه عالج المسألة ببراعة وزوجها قبل أن ينكشف الأمر ..
لقد كانت تحبه بجنون وتركها وسافر .. أحس بمقدار تضحيتها وشعر بأنانيته وضآلته .. وتألم لهذا جدا ..
وحين رجع محملا بالهدايا .. لم يفكر حتى فى هدية صغيرة لها .. نسيها تماما .. ونسى قبلاتها والدفء الذى غمرته به أيام كان محروما من حنان الأنثى ودفئها ..
نسى هذا كله وعاد وهو لا يذكرها ..
شعر بالعرق يتفصد من جبينه ..
وفكر فى علاقاتهما .. ولكن ماذا يقول لها ..
وهل هو ابنه حقا .. وهل هى نفسها متيقنة من ذلك .. من يعرف النساء ..
لقد قضى الأمر وتزوجت .. فلماذا يفكر فى هذه المسألة الآن ..
***
ومر أسبوع شغل فيه إبراهيم بالعمل مع الشيخ عبد التواب .. ليعرف ميراث والده كله ويشاهد الزراعة والفلاحين فى الغيطان ..
وذات ليلة صعد إلى غرفته لينام .. فوجد العشاء موضوعا على المائدة .. وزكية وحدها صاحية إلى أن يفرغ من العشاء .. فجلس إلى المائدة وهو يود أن يسألها .. هل نامت نفيسة .. ولكنه سمع صوتها فطلب منها شيئا .. ودخلت نفيسة إلى حجرة الطعام ورآها متزينة وفى أجمل أثوابها كأنها فى ليلة عرسها .. فشعر بالألم لأنه ترك هذا الجمال لغيره .. وكان جبانا ..
وقال لها بعد أن دخلت زكية بالأطباق إلى المطبخ :
ـ لماذا تهربين منى يا نفيسة ..؟
ـ من يقدر يهرب من سيده ..؟
ـ دعك من هذا الكلام .. أنك تهربين ..
ـ أبدا ..
ـ رأيت ولدك .. ماهر ..
ـ متى ..؟
ـ فى اليوم التالى لوصولى ..
ـ وما رأيك فيه ..؟
ـ ولد جميل مثل أمه ..
ـ ويمكن مثل أبيه ..
وكانت تنظر إليه بخبث وتحدى ..
ـ أبوه .. جميل ..؟ أبدا ..
ـ أبوه .. جميل جدا ..
وشعر بأنها تراوغه واكتسى وجهها ذلك الطابع .. الجمال الذى أسره منذ سنوات .. والذى ما زال يأسره .. التمعت العينان وبدا فيهما ذلك البريق المتموج الذى يجمع ثلاثة ألوان ..
امتزجوا فى لون ضارب يهتز .. وأحس بأنه يذوب ويتضاءل .. وأرسل أذنيه فلم يسمع صوتا فى الطابق الذى هو فيه .. وشعر بأنه وحده معها كما كان منذ عشر سنوات ..
وطلب أن تحضر له شيئا لتقترب منه .. فلما اقتربت أمسك بيدها .. فكأنها لسعتها عقرب .. فنفضتها منه بعنف .. وعاد سواد العينين .. إلى بياض ..
فارتجف .. وسأل :
ـ ما الذى جرى .. يا نفيسه ..؟
ـ كنت أظن أن سفرك للخارج .. قد غير من طباعك .. ولكن ....
وانطلقت خارجة سريعا .. وهى ترميه بنظرة شرسة ..
وشعر بأنها أذلته بهذه الحركة .. وعصفت برأسه العواصف .. وفكر فى طردها .. وطرد زوجها كذلك من الطاحونة ..
ولكنه عدل عن ذلك .. وأخذ يلتمس المعاذير لتصرفها ..
وكان يحبها بجنون .. وعادت به الذكريات إلى الليالى الطويلة التى قضاها معها .. وهى من أمتع ليالى حياته ..
***
وفى صباح اليوم التالى لاحظ الشيخ عبد التواب أنه مكتئب .. فأشار عليه بأن يمضيا اليوم فى الغيطان بين أحضان الطبيعة ..
وكانت الشمس مشرقة والجو دافئا .. ولاحظ إبراهيم أن الفلاحين لا يعرفونه .. ولولا وجود الشيخ عبد التواب معه لأنكروه تماما ..
وكانوا يستقبلونه بترحاب للطبع المركب فيهم .. ويسرون عندما يعرفون أنه ابن المرحوم .. ولكنه كان يعرف فى أعماقه أنه غريب عنهم ولا يستطيع أن يعيش بينهم ولا يمكن أن يكون جزءا منهم كما كان والده .. وكما هو الشيخ عبد التواب .. إلا إذا عاش معهم بقلبه وخالطهم بلحمه ودمه ..
ولقد أبعدته الحياة التى عاشها فى لندن عنهم .. فاذا اقترب منهم متصنعا سينفرون منه كما نفرت نفيسة الليلة الماضية ..
وكانت عيناه تمسح الأرض وما فيها من زراعات القصب .. والقمح .. والفول .. والبرسيم .. ويحدث نفسه .. أما أن يكون قطعة من هذه الأرض أو يتركها .. أما أن يلتصق بترابها .. ويشتم عبيرها .. أو يرحل عنها ..
وكان معجبا بخلق الشيخ عبد التواب .. فقد كان فيه سماحة وطيبة يجلان عن الوصف ..
لقد خبرهم الرجل فى مدى أربعين سنة .. وعرف طباعهم .. فهل يستطيع هو أن يفعل ذلك أم سيعيش بينهم كالغريب ..
***
لقد أفنى الشيخ عبد التواب عمره فى الأرض من أربعين سنة وهو يزرعها .. يحرثها .. ينشرها ويطويها .. ويجنى ثمارها .. وتمتص عرقه ويشتم ترابها .. من أربعين سنة .. وهى حياته ولها يعيش ومن أجلها يعمل ..
فكيف يعيش هو مثله ..
ظلت هذه الخواطر تدور فى رأسه بعنف حتى أنه فكر فى أن يرسل برقية إلى زوجته بأن تبقى فى لندن ولا تحضر .. كما اتفقا وسيرجع هو إليها ويترك الأمور للشيخ عبد التواب ..
وعندما عرض هذه الفكرة على الشيخ عبد التواب رفض هذا .. وقال :
ـ هذا خطأ يا ابنى .. ويجب أن تعمر بيت أبيك .. ويظل البيت مضاء كما كان .. ولو سافرت سيظلم البيت .. وأنا كنت أعمل بحس أبيك ونفسه .. كان بجانبى فى كل خطوة ..
لقد كان والدك نادر المثال .. فمن شيال بسيط فى الجمرك .. إلى ما ترى .. وكل ذلك بكده وكفاحه وعرق جبينه .. كون أكثر من مائة فدان والطاحونة وغيرها .. وأوجد كل هذا لك .. فاذا تركته ذهب لقمة سائغة لأعمامك وأقربائك .. الذين كانوا يكرهون والدك ويحقدون عليه .. لأنه نجح وفشلوا هم .. فابق لتحافظ على تراث أبيك ويكون منك الخير لأهل قريتك فأنت طبيب وما أكثر المرضى فيهم ..
وحلق إبراهيم فى آفاق الخيال ..
لقد عاد لامتلاك هذه الأرض .. فهل خلق لهذا ..؟
وشاهد إبراهيم وهو راجع فى العصر ابن نفيسه يلعب فى الترعة .. قريبا من المكان الذى رآه فيه من قبل فحن للصبى حنينا شديدا وود لو يأخذه بين أحضانه ..
***
وقدمت زوجة إبراهيم من لندن .. واستقبلت حياتها الجديدة بقلب منشرح .. وكانت أمها ايرلندية .. وقضت " مارى " فترة من حياتها فى الريف الإيرلندى .. ولذلك استقبلت القرية بصدر متفتح .. واختارت أن تبقى فى البيت فى القرية .. إلى أن يجد بيتا من طابقين فى المنيا يجعل الطابق الأول عيادة والثانى مسكنا ..
كما جعلته بعد ثمانية شهور من وجودها فى مصر يفتح عيادة أخرى فى " الفكرية " ..
وكان إبراهيم فى الشهور الأولى من عودته .. منقبض النفس ضيق الصدر .. ولكن الشيخ عبد التواب فتح صدره للحياة .. وبعد أن عرف كيف تسير الأمور وتجرى .. أصبح أكثر نشاطا وأكثر اقبالا على العمل ..
وكان يجعل يوم الجمعة كله للريف .. ولأن زوجته لم تنجب حتى الآن ولم تشغل بالأولاد .. فقد كانت تحب أن تصحبه فى كل جولاته فى الريف ..
وكانت تسر كثيرا .. وهى تراهم فى كل وجبة طعام .. يجيئون بالطشت والأبريق والصابون والماء الساخن لغسل الأيدى .. وكانت نفيسة أو زكية هى التى تقوم بهذا العمل غالبا ..
وذات يوم قام ابن نفيسة بهذا العمل .. فأمسك الأبريق فى يده .. وصب لها الماء فى يديها فأخذت " مارى " تحدق فى عينيه وتبتسم .. وتحسد نفيسة لأن لها هذا الابن الجميل .. وتتحسر لأنها بعد زواج دام سبع سنوات .. لم تنجب حتى الآن .. وكانت قد عرضت نفسها على طبيب أسرتهم فى لندن .. فلم يجد بها أى مانع من الحمل ..
وكانت تعرف رغبة إبراهيم فى أن يكون له ولد من صلبه ليرث أرضه ويحمل اسمه .. وتظل شجرة الأسرة مورقة ..
وكلما نظرت من النافذة .. ورأت الأولاد يلعبون فى طرقات القرية .. وذاهبين فى الصباح إلى المدرسة بملابسهم المدرسية تود لو كان لها .. ولد يلعب ويجرى مع هؤلاء .. ويحمل كتبه بين يديه ..
كان هذا هو الذى يؤرق مضجعها .. ويفسد عليها حياتها ..
كانت تود أن تكون أما .. وتحمل طفلها على صدرها ..
ومرت الشهور وانقضى على وجودها فى مصر ثلاث سنوات مرت سريعا .. وكان زوجها مشغولا بعمله وسعيدا بوجودها معه ونجاحها فى الحياة .. وكان قد ذاع اسمه واشتهر كطبيب وانسان .. حتى أصبح يحضر المؤتمرات الطبية التى تعقد فى القاهرة .. وفى باريس .. ولندن ..
وكانت زوجته مسرورة بنجاحه .. وتود لو تكمل له سعادته .. بانجاب ولد له .. يريح أعصابه .. بالنسبة للمستقبل ..
استغرق هذا الخاطر كل تفكيرها ..
***
وذات مساء ركبت " مارى " القطار وحدها لتقضى أياما فى القرية .. وكان زوجها قد دعى إلى مؤتمر طبى فى القاهرة .. فرأت أن تمضى أيام غيبتة فى القرية .. ونزلت فى محطة " أبو قرقاص " ساعة الغروب ووجدت عبد اللطيف فى انتظارها على المحطة وكان ينتظرها دائما كلما سافرت وحدها ..
فتناول حقيبتها .. وأخذا سيارة أجرة إلى القرية ..
وسارت بهما السيارة فى الطريق الرئيسى .. ثم انحرفت بعد ربع الساعة فى طريق القرية .. وكان الجو ممطرا شديد البرودة .. وأخذ المطر يهطل بغزارة .. وتكاثر الوحل فى الطريق حتى تعذر على السيارة السير ..
وكانوا قد اقتربوا من الطاحونة .. فلما شاهدتها " مارى " عن بعد رأت أن تستريح فى الطاحونة .. حتى ينقشع المطر .. وتصبح الطريق صالحة للسير ..
ونزلت من السيارة ووراءها عبد اللطيف وكان المطر قد بلل ثيابها ..
وفتح لها عبد اللطيف باب الطاحونة المغلق .. فدخلتها وخلعت فى زاوية منها ثيابها الخارجية لتجف .. وبقى عبد اللطيف فى الخارج ..
ثم فرش لها عبد اللطيف بعد أن رأى الجو مكفهرا وينقلب من سىء إلى أسوأ .. حراما على الدكة الوحيدة الموجودة فى الطاحونة ووضع لها شيئا كالمخدة .. لتستريح أو تنام .. أن ظل الجو على سوئه .. وقبع هو فى زاوية من داخل الطاحونة بعد أن أغلق الباب بسبب الريح العاصف ..
وكان المصباح البترولى الصغير .. يتراقص ضوؤه .. على أرض الطاحونة وخيوط الدقيق .. متناثرة هنا وهناك .. من أثر العمل فى النهار .. وطاقة الطاحونة العلوية مفتوحة على السماء الداكنة ..
ونامت " مارى " وهى مضطجعة فى قميصها الذى لم يبلله المطر .. من أثر التعب .. والسفر .. ورأت فى منامها .. أنها فى بيتها فى المنيا وماهر يدخل عليها حجرة نومها فى الصباح ويقدم لها كوبا من عصير البرتقال وهو يناديها بماما .. وتناولت منه الكوب واحتضنته وأخذت تغمره بقبلاتها وفى هذه اللحظة دخل عبد اللطيف عليها الحجرة وانتزع منها الصبى .. وحاول ضربه فصرخ بشدة ..
وقامت فزعة من نومها فوجدت الظلام يخيم .. كانت الريح قد أطفأت المصباح والعاصفة تزأر فى الخارج وحملت إليها الريح صوت الرصاص .. هل سطا اللصوص على حظيرة الماشية ودخلوا القصب .. أو جاءوا يسرقون الطاحونة ..
ارتجفت من الخوف ونادت عبد اللطيف .. وهى فى مكانها .. وتحرك على صوتها .. واقترب من الدكة .. وهو يقول لها :
ـ لا تخافى أنه لا شىء .. وصوت الرصاص بعيد .. بعيد جدا .. على مدى واسع منا ولا شأن لنا به ..
وحاول اشعال المصباح ..
فقالت له .. أنها خائفة .. وأمسكت به ليجلس بجوارها ..
وجلس فى طرف من الدكة متخشبا .. ولمسته بيدها لتعيد السكينة إلى نفسها .. كان الخوف من الشىء المجهول ومن الظلام والبرد والريح قد عطل كل تحركات عقلها .. وأصبحت كائنا يتطلب الدفء والحياة ..
والتصقت بجسمه .. وظل خائفا .. ثم غشاه الظلام فأحس أنه بجواره أنثى ككل أنثى ومال إليها واحتضنها ..
وتمنت فى هذه الساعة أن يتحقق لها الحلم ..
========================= 
نشرت القصة فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971
========================
         
  
        










         
  

  الراقصة

سمع صوتها فى الحمام وهى تغنى بصوت خافت جميل يختلط مع صوت الماء .. وكانت شراعة باب الحمام وهى من الزجاج المغشى تبعث ضوءا خافتا فى الطرقة .. أما باقى الشقة فكانت تسبح فى الظلام ..
وكان مختبئا منذ دخل من باب المطبخ .. بعد أن عالج القفل ببراعة .. فى الغرفة الصغيرة المطلة على المنور .. لأنه كان متيقنا أنها لا تدخلها إلا فيما ندر .. فهى أشبه بغرفة " الكرار " وليس بها سوى نافذة وحيدة مغلقة على الدوام ..
وكان يحس ببصيص من النور ينبعث من حركة المصعد فى العمارة ..
كانت جدران الغرفة الباهتة .. والكراسى الصامتة .. والدولاب الكبير الذى قبع وراءه ستارا كثيفا حجبه عن كل الأنظار ..
وأخذت حركة المصعد الرتيبة تريح أعصابه وتبعد عنه التوتر الذى ظل يلازمه ساعات قبل أن يدخل الشقة ..
وقدر حسين أنها ستمكث فى الحمام ساعة على الأقل .. ولذلك استرخى وهو يدير الخطة فى رأسه للمرة العاشرة فى هدوء واطمئنان ..
ولكن انتابته فجأة رعشة عندما أحس بها تفتح باب الحمام .. إذ لم يكن مستعدا لملاقاتها فى هذه اللحظة .. فارتعش بدنه .. وتحرك بحذر من مكانه وتطلع وهو فى الظلمة الكابية .. رآها تخرج عارية من الحمام وتتجه إلى غرفة النوم .. ثم تعود إلى الحمام مرة أخرى وتغلق عليها الباب .. فأدرك أنها نسيت شيئا .. ولم تجد حرجا فى خروجها عارية لأنه لا أحد سواها فى الشقة ..
سمع صوت الماء وتصور وهو يتساقط على الجسم الذى رآه منذ لحظات .. أملس وفى بياض العاج .. الجسم الذى رآه يرقص فى مرقص " فينوس " فى ليال كثيرة .. يتمايل ويتكسر على صوت الموسيقى وصوت الدف ..
رآه فى الأشهر الثلاثة الأخيرة مرات عديدة .. ولكنه لم يشاهده قط بمثل هذه الفتنة .. ألأنه لأول مرة يشاهدها وحده .. وليس مع عيون الجماهير فى المرقص .. أم لأنه فوجىء بها فبهت .. لم يكن يدرى ..
أعجب بها وحركت مشاعره .. وود لو يعدل عن قراره .. ولكن لما أحس بحركة الماء تتوقف .. ركز حواسه وتسمع .. وهيأ نفسه لها .. وأطل من الباب وهو فى الظلمة ملتصقا ما أمكن بالجدار ..
وظل " حسين " معلقا بصره بباب الحمام .. حتى رآه ينفرج ورآها خارجة ملفوفة فى " البرنس " كانت متوردة الوجنتين متوهجة وشعرها يلمع فى سواد ونعومة ..
وكانت تخطو الوجى نشوى من الحمام الساخن .. عندما فوجئت به ففتحت فمها ولكنه كتم صرختها بعنف .. وفى لحظات أوثقها بالحبل الذى فى جيبه بعد أن كممها وأدخلها حجرة النوم .. وربطها فى السرير ..
كان " حسين " قد راقبها قرابة شهر كامل رقابة دقيقة طلع العمارة الكبيرة بأدوارها الثمانية والحركة الشديدة التى فيها وعلى الأخص فى الدور الأول والدور الثانى حيث المحلات الصغيرة لبيع وتصليح أجهزة الراديو والتليفزيون .. ومخازن تجار الخردوات .. ومحل لبيع الأحذية وحلاق للسيدات .. ومعهد للتجميل .. ومصنع للقمصان الجاهزة ..
عرف هذا وراقبه عن كثب .. وكانت " فتحية " تسكن فى الدور الثالث فوق هذه الأرجل الطالعة والنازلة .. وعرف كل تحركاتها فى شقتها وفى الشارع وفى المرقص .. وعرف أنها اعتادت أن تذهب إلى المرقص كل ليلة بعد الساعة الحادية عشرة ولذلك رأى أن يسرع بانهاء مهمته قبل أن يكتشف غيابها ..
ولبس القفاز وأخذ يفتش فى الصوان والأدراج حتى عثر على الجواهر فوضعها فى الحقيبة الصغيرة التى أعدها لهذا الغرض ..
وبحث فى كل مكان يمكن أن توضع فيه النقود فلم يجد شيئا .. فاكتفى بالجواهر .. وأغلق الحقيبة وأخذ طريقه بحذر إلى الخارج ..
وقبل أن يفتح الباب الخارجى .. سمع همهمة منها فى الداخل .. فأدرك أنها تحاول تحريك الكمامة بأية وسيلة .. ورجع إليها مسرعا فوجدها قد أزاحت الكمامة عن فمها .. وتلقت " فتحية " وجوده بصرخة أفزعته وطيرت صوابه ..
وكلما اقترب منها زاد فزعها فجن جنونه وأمسكها بقوة وضغط على عنقها ليمنعها من الصراخ .. فتلوت لتفلت منه وضغط أكثر وهو لا يحس ولا يدرى ما يفعل حتى وجدها تسقط دون حركة على أرض الحجرة ..
واستبد به الرعب .. وأسرع خارجا من الشقة .. وهبط إلى الدور الذى تحته ومشى ساكنا فى الطرقة لما وجد أبواب المحلات التى فى هذا الطابق كلها مفتوحة ومضاءة ..
وكان العملاء يتحركون فى الطرقة وعلى السلم فاختلط بهم .. ونزل معهم على السلم ولم يستعمل المصعد ..
وعندما خرج إلى شارع عدلى .. كانت الساعة تقترب من العاشرة والليلة صيفية جميلة .. وأنوار النيون تلمع على واجهات الحوانيت .. وحركة المرور فى الطريق لاتزال شديدة .. والدكاكين الصغيرة كلها مفتوحة وأنوارها تسطع .. والناس يروحون ويجيئون فى الطريق دون أن يحسوا بشىء مما حدث ..
وكان الرعب قد شله .. وسار فى الشارع مذهولا تماما .. وكانت غريزة البقاء هى التى تدفعه إلى الحركة والتخفى .. أنه فعل شيئا لم يكن فى حسبانه قط ولا فكر فيه أبدا .. ولما اقترب من أجزخانة سبق له التردد عليها أحس بانفعال شديد وغضب .. فما سأل عن دواء ووجده فيها .. كل شىء غير موجود اطلاقا ..
وزاد غضبه من سرعة سيره .. حتى خرج من قلب المدينة .. وأخذ يتجه فى شارع عرابى إلى محطة السكة الحديد ..
وكان احساسه بالوحدة قد ضاعف من المه ومن أثر الجريمة على نفسه .. فشعر باضطراب شديد ..
وكانت الحقيبة فى يده حقيبة عادية يمسك بها أى شخص ولا تستلفت نظر أحد .. كائنا من كان .. ولكن اضطرابه ووقع الجريمة على وجدانه .. جعلاه يود أن يبعد عن القاهرة كلها بأسرع ما يمكن ..
وفكر فى السفر .. إلى أى مدينة .. طنطا أو المنصورة .. أو الإسكندرية .. ومن هناك سيطلع على تفاصيل الحادث فى الصحف فى اليوم التالى أو الذى بعده .. ويكون بنجوة منه .. ولا تقع عليه العيون .. فكر فى هذا ولكن عدم عثوره على نقود فى بيتها جعله عاجزا عن السفر .. وكان يعرف من خلال تجاربه السابقة أن بيع المجوهرات فى المدن الصغيرة ملفت للأنظار ..
أما فى القاهرة المدينة الكبيرة الضخمة كالمحيط ففى امكانه أن يفعل فيها كل شىء .. يبيع ويشترى على هواه وقرر أن يقضى أياما فى مسكنه بالقلعة ويبيع الجواهر المسروقة من خلالها ثم يسافر بعد ذلك إلى المكان الذى يختاره ..
وسمع صفارة طويلة كتلك التى تخرج من عربة بوليس النجدة فذعر .. وأخذ يحدق فى كل اتجاه وأخذ جرس يدوى دون انقطاع ومرت عربة المطافىء الحمراء فى الطريق المضاد .. فانتابته رعدة عنيفة .. ورجع ذهنه إلى الحادث الذى ما كان يقدر حدوثه قط .. فانه ما فكر فى القتل أبدا ولا دار هذا بخلده وأحزنه الأمر وأحس بالغصة فى حلقه ومرارة العلقم ..
وفى الطريق وهو يمضى كان يخيل إليه أن رجليه مقيدان بسلاسل من حديد ..
وكلما مضى فى الشارع الطويل المضاء على أشده أحس برهبة الموقف أكثر وأكثر .. وازداد فزعه وسرت القشعريرة فى كل بدنه .. وخشى لو ظل يسير أن يفضحه فزعه .. واقترب من ميدان المحطة وتطلع إلى الأنوار الزاهية .. كانت المصابيح تضىء الميدان كالنهار المبصر ..
ووقف الأتوبيس رقم 500 فى الموقف .. وتطلع إليه حسين فى ثوان وكان لم يركبه أبدا .. وركب دون أن يكون له وجهة .. ووجد مكانا بجوار سيدة شابة تضع ربطات على حجرها .. فجلس صامتا ووضع الحقيبة على فخذيه ..
كانت الجلسة مريحة والأتوبيس يشق قلب الليل وهو يسطع بالأنوار وتطلع إلى السيدة فألفاها جميلة .. كانت ترتدى فستانا من قطعة واحدة .. وقد انحسر قليلا فوق الركبة ولكن الأشياء التى تسوقتها ووضعتها فى حجرها حجبت عنه جمال الساقين ..
كان وجهها جميل التقاطيع باسما وذكره بوجه امرأة جميلة أحبها منذ خمس سنوات .. وانتهت علاقته معها بالفشل ..
كانت امرأة تقيم فى نفس المنزل .. فلما حدثها بحبه ورغبته فى الزواج منها .. صدته بسخرية لفقره وضآلة شأنه .. ووجدها بعد شهر واحد خليلة لتاجر جواهر فى الصاغة وتمرغت بعده فى الوحل ..
وهيجته الذكريات .. ولكن هذه السيدة الجالسة بجواره وادعة وصافية صفاء البللور ..
ولا تشبه تلك فى شىء من سلوكها .. أنها لا تتحلى بالجواهر .. وتطلع إليها أكثر وأكثر والسيدة تلاحظه بجانب عينيها .. والعربة تسير دون توقف فى الليل الحالم ..
لاحظت السيدة أنه ليس بالطويل وفى حوالى الثلاثين من عمره .. ولم يكن وجهه منفرا رغم ما فى تقاطيعه من صرامة .. وعندما أشعل سيجارة ضايقها وشعر بأنها تضايقت ولكنه كان فى حاجة إلى الدخان ليخفف من توتر أعصابه .. فلم يطفىء السيجارة ..
وكانت رشيقة القوام .. وكان وجهها الصبوح وعنقها العاجى واستدرة كتفيها وشعرها الأسود .. صورة كاملة .. للجمال الباهر يجذب كل رجل إليها .. وكان فى حاجة إلى حنان أنثى مثلها وود لو يعطيها الحقيبة عن طيب خاطر .. وبقلب مفعم بالفرحة لو منحته ابتسامة واحدة أو نظرة عطف ..
حركت الربطات من فوق فخذيها فأصابه الفزع لأنه وقع فى تقديره أنها تتهيأ للنزول فى المحطة القادمة .. ولكنها جمعتها وضمتها إليها .. فكشفت عن ساقيها .. وزادته هذه الحركة ميلا إليها واشتعالا ..
وفى محطة روكسى تحركت لتنزل فأفسح لها الطريق .. ونزل وراءها وهو يعتزم فى جنون أن يتابعها إلى بيتها .. وهنا يترك لها الحقيبة .. ويقضى معها ساعة من عمره هى عمر الزمان كله ..
***
قبل أن تسير خطوات وهو يراقبها بعينى الصقر .. وجدها انضمت إلى رجل وسيدة أخرى وكانا يركبان معها نفس الأتوبيس ولم يلاحظ هو ذلك ولم يحس بوجودهما لانشغاله بها وحدها ..
وجثم الحزن على قلبه واعتصره ..
ومن المحطة المقابلة ركب الأتوبيس الراجع إلى القاهرة ..
***
كان يحس وهو جالس وحده فى الأتوبيس بالحزن .. كان يشعر أن عصفورا من الذهب طار من يده .. كان حلم اليقظة يجعله يؤمل إلى أن يأخذ منها الكثير يأخذ منها مالم تعطه له أنثى فى كل ما مضى من حياته .. ولكنها ذهبت دون أن يعرف حتى اسمها ..
وفى الأتوبيس لم يفكر فى الحقيبة كثيرا .. وفكر فيما سمعه من حديث الركاب .. أنهم حمقى ويشغلون أنفسهم بالتفاهات ولو أنه تعلم كما تعلموا لكان خيرا منهم ونفع وطنه أكثر وأكثر ولغير نهجه فى الحياة ..
ولكن ماذا يجدى العلم إذا لم يرفع من كرامة الإنسان ..
لقد سحقه الناس فى مدى ثلاثين عاما .. وعندما التفت إليهم ليواجههم هبت عليه العاصفة بكل قوتها واقتلعته اقتلاعا ..
كان يحدق عبر زجاج السيارة .. إلى العمارات على جانبى الطريق والنوافذ المضاءة والمظلمة ويفكر لو وجد الخير .. فى كل مكان لما وجد مثله فى الحياة .. أحس بالكآبة تجثم على صدره طول الطريق ..
ونزل عند محل الأمريكين فى أول شارع طلعت حرب ووجد نفسه يتجه إلى العمارة التى ارتكب فيها جريمته ويدور حولها وكان يتوقع عربات الشرطة والجموع حول المكان فلم يجد شيئا من ذلك ووجد السكون التام .. فتنفس الصعداء وأخذ يبعد سريعا ويبعد ..
حتى وقف أمام باب حانة ودخل وجلس إلى مائدة منزوية ووضع الحقيبة على كرسى بجانبه وطلب كأسا من " البراندى " ..
وأخذ يحدق فى سماء الحانة عابس الوجه حزينا ..
كان يحاول أن يبعد شبح الجريمة عن رأسه .. ونظر إلى الجالسين حوله فى الموائد القريبة والبعيدة كانوا خاملين ضائعين وعلى وجوههم كل التعاسة التى يمكن أن توجد على وجوه البشر ..
ولقد أصبح فى ساعة نحس واحدا منهم .. بل أشدهم ضياعا وتعاسة ..
استبد به الرعب لما تصور الراقصة التى كانت كلها حياة .. وقد أسكتها هو .. مسحها من سجل الوجود بيديه .. كأنه هو الذى أوجدها ..
ووجد فتاة على " البار " ليست بالجميلة ولا القبيحة تحادث رجلا سمينا .. فوق الخمسين .. أحمر العينين .. مخمورا على أشده ولكنه ما زال يطلب المزيد من الخمر ويتحدث بصوت يسمعه من فى الشارع ..
وحول " حسين " وجهه عنهم جميعا .. وغرق فى الكأس أخذ يشرب ويشرب دون حساب ..
***
وخرج مخمورا .. وركب تاكسى وجده واقفا فى عتمة الشارع .. إلى بيته فى القلعة ..
وكان يركب بجوار السائق الشاب رفيق له فى مثل سنه ..
ونعس حسين .. كان رأسه ثقيلا ولما فتح عينيه ضم الحقيبة على حجره .. وفتحها ثم أغلقها سريعا .. ولاحظ السائق هذه الحركة فتبادل مع زميله نظرة صامتة .. ولم يحس حسين من فرط سكره أين تمضى به السيارة ..
ولما بلغت القلعة دارت حولها ..
وبدلا من السير فى الطريق المألوف خرجت به إلى الطريق الواسع المؤدى إلى مقابر " الخفير " ..
وأوقف السائق السيارة فى الظلام وكان حسين نائما ورأسه ملقى على زجاج النافذة عندما اقترب منه السائق ورفيقه ولم يجدا مقاومة تذكر فى كتم أنفاسه .. ولما فتحا الحقيبة برقت عيونهما من الشىء الذى وجداه فيها ..
======================= 
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بالعدد 5133 بتاريخ 11/1/1968 وأعيد نشرها فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971
========================      



      








اسم القصة                       رقم الصفحة
البرج   ..............................  2                       
العطر      .......................     16
المثالة     ..................          28
الخيط الذى فى السماء   ..........   33
السفينة الذهبية  ...............  .   42
الصياد   ..................           57
وقفة فى جنزا        ..........      62
الثلاثة  ............     ......        70
المظروف  ...............              75
الطبيب ............................  79
اللهب  ............................   82
البرتو     .................           87
القاتل    ............................. 92
زائر الليل   ...........................  98
الدكان   ...................            107
الحلم   ...................             112
الراقصة  ..................           123